واحدة من أكثر التفسيرات التي تم استخدامها لتفسير الإخفاقات السياسية التي حدثت في الفترة ما بين العام 2011 وحتى 2013 في مصر هي وجود الدولة العميقة. مقاومة الدولة العميقة كانت المبرر الأكثر استخداما في تفسير أسباب عدم قدرة الرئيس محمد مرسي على تحقيق الكثير من الإنجازات أو الوفاء بالوعود التي سبق أن قطعها على نفسه. وإذا انتقل الحديث إلى إصلاح أو تغيير مؤسسات الدولة بصفة عامة، فإن موقف الدولة العميقة المضاد لهذه التصريحات كان يستخدم كثيرًا لتبرير صعوبة هذا الإصلاح. استخدام مبرر الدولة العميقة لم يقتصر فقط على مصر أو العالم العربي. استخدم الرئيس السابق دونالد ترامب في تصريحات تلفزيونية مصطلح ” الدولة العميقة” لوصف الأجهزة المخابراتية في الولايات المتحدة الأمريكية. وبهذا، فإن استخدام المصطلح انتقل من دول العالم الثالث غير الديموقراطية إلى أقوى دولة في العالم والتي تقدم نفسها كنموذج في الديموقراطية. أما في أوروبا، فإن التيارات اليمينية والشعبوية استخدمت هذا المصطلح لتبرير موقفها ضد النخب السياسية الحاكمة في هذه الدول، فطبقا لهذه التيارات فإن السياسيين في هذه الدول في تحالف مستمر مع الدولة العميقة من أجل ضمان استمرارهم في الحكم. والشاهد، أنه من خلال هذه الملاحظات المختلفة نلاحظ أن الدولة العميقة تحولت إلى ما يبدو وكأنها ظاهرة عالمية تتجاوز الدول والحدود.
في السياق العربي عمومًا، والسياق المصري على وجه الخصوص، ففي تقديري أن استخدام مصطلح الدولة العميقة غير مفيد سياسيا، وغير مفيد أكاديميًّا أيضًا. وقبل أن أذكر أسبابي التي تدعم موقفي ينبغي أن نفرق في البداية بين معارضة أجهزة الدولة لقرارات السياسيين التي هي ظاهرة موجودة في أغلب دول العالم وتشمل دول ديموقراطية ودول غير ديموقراطية، وبين عمل هذه الأجهزة على إسقاط السياسي المنتخب أو تعمد العمل عكس ما يريد من أجل إفشاله أو إسقاطه. العلاقة بين السياسي والبيروقراطي في أغلب الوقت لا تكون علاقات ودية. البيروقراطي الذي لديه خبرة متراكمة في مجال معين، بالإضافة إلى المهارة الفنية يرى في أحيان كثيرة أنه الأجدر على اتخاذ القرارات في المسائل التي يعرفها. سواء كان المجال هو العلاقات الخارجية والأمن القومي، أو كان المجال طريقة إدارة النفايات على المستوى المحلي. في أغلب الأحوال، لدى قطاع واسع من البيروقراطيين والفنيين قناعة بأن لديهم القدرات والإمكانيات اللازمة لإدارة هذه القطاعات دون الحاجة إلى السياسيين الذين يفتقد أغلبهم إلى الخبرات الفنية اللازمة للتعامل مع هذه المواضيع. أما بالنسبة للسياسي، فإنه يظن أنه الأقدر على اتخاذ القرارات في هذه المواضيع، ليس بسبب كونه يمتلك الخبرة الفنية والإدارية، لكن بسبب اعتقاده أنه الممثل الحقيقي لرغبات ومصالح المواطنين والأقدر على التعبير عنها. بين رغبة البيروقراطيين في العمل بكفاءة واحترافية، ورغبة السياسي بالعمل طبقًا لمصالح وأهداف محددة تبرز حالة من الشد والجذب بين السياسي والبيروقراطي.
لذلك، فليست كل معارضة صادرة من البيروقراطيين أو الفنيين لقرارات أو رؤى السياسيين هي دليل على كرههم أو معارضتهم لهذا السياسي أو سعيهم لإسقاطه. هناك معارضة “طبيعية” تحدث سواء كان السياق ديموقراطي أو غير ديموقراطي، وسواء كان السياسي محبوبًا من البيروقراطيين أو غيرَ محبوب. هذه المعارضة الطبيعية ليست جزءًا من الدولة العميقة، بل هي جزء من كل دولة تقريبًا.
في السياق العربي، استخدام الدولة العميقة غير مفيد من الناحية السياسية لأنه قد يعمي أعيننا عن التفريق بين هذه المعارضة الموجودة في كل الدول، وبين تلك المعارضة التي تأتي من الأجهزة الإدارية للدولة والتي تهدف إلى إفشال السياسي أو أسقاطه من الحكم. لكن الأهم من ذلك، أن الدول العميقة تشير في أحيان كثيرة إلى “مجهول” لا نستطيع تحديده على وجه الدقة لكننا نعلم بوجوده، في حين أنها تترك “معلومًا” معروفًا على وجه الدقة ونعلم جميعًا بتدخله، ألا وهي المؤسسة العسكرية.
الآن، قد يقول قائل، إن الدولة العميقة تشمل مؤسسات أخرى بالإضافة إلى المؤسسة العسكرية، وهذا صحيح. لكن في التحولات الديموقراطية، فإن الخطوة الأولى لحدوث أي تحول ديموقراطي حقيقي هو ضمان عدم تدخل الجيوش في العملية الانتخابية، وأن صناديق الاقتراع هي قواعد اللعبة الوحيدة المتاحة للتغيير السياسي. بدون الاتفاق على هذه القواعد، من الصعب تخيل وجود نظام ديموقراطي من الأساس. وبمعنى آخر، إخراج الجيش من السياسة، واتفاق النخب السياسية على الديموقراطية هي متطلبات أساسية قبل الحديث عن أي تحول ديموقراطي حقيقي في البلاد. لذلك، فإن التركيز على المؤسسة العسكرية من البداية ووضعها على قمة الأولويات أفضل من الناحية السياسية بدلًا من الإحالة إلى مجهول لا نعلمه، أو إلى مؤسسات أخرى مؤثرة لكنها تظل أقل في التأثير وفي القدرة من المؤسسة العسكرية. والخلاصة، أن معرفة إذا ما كانت هذه المقاومة قادمة من المؤسسة العسكرية أم أنها جزء من المقاومة الطبيعية الموجودة في كل الدول هي خطوة أولى وأساسية من أجل التعامل مع أجهزة الدولة من أجل إصلاحها أو تغييرها. فلو كانت المقاومة جزءًا من المقاومة الطبيعية، فإن دراسات إدارة التغيير داخل المؤسسات الحكومية توجد بها العديد من الخبرات والمعارف التي يمكن الاستفادة منها. أما لو كانت هذه المقاومة بدعم من المؤسسة العسكرية، فالأولى من الناحية السياسية التركيز على المؤسسة العسكرية وكيفية التعامل معها بدلًا من التركيز على أجهزة الدولة.
أما من الناحية الأكاديمية، فإن مفهوم الدولة العميقة يظهر كمفهوم مطاط يحتوي كل شيء بداخله، لكن عند فحصه والاقتراب منه لا تستطيع أن تتعرف على حقيقته. لا يوجد تعريف واضح ومحدد له. لكن الأهم، أنه في الأغلب، يمكن إيجاد تفسير أفضل للظاهرة محل الدراسة باستخدام متغير آخر بخلاف الدولة العميقة. بدلًا من تفسير ظواهر مثل نجاح الانقلاب العسكري في مصر، وعدم قدرة الرئيس محمد مرسي على إدارة الأجهزة الإدارية للدولة، وقدرة مؤسسات الدولة المصرية على الاستمرار ومقاومة التغيير عبر الأنظمة السياسية المختلفة من خلال استخدام متغير واحد هو “الدولة العميقة”، فإننا يمكننا تفسير هذه الظواهر بصورة أدق من خلال استخدام متغيرات أخرى أكثر دقة هي على الترتيب: دعم المؤسسة العسكرية وبحثها عن مصالحها، ضعف خبرة الرئيس المنتخب في إدارة أجهزة الدولة، وجماعات المصالح والشبكات التي تم بنائها عبر سنين وتعمل باستقلالية كبيرة.
اضغط لتحميل الملف