الإلهام والجرح والدافعية.. كيف أخذ الهروب من سجن “جلبوع” موقعه في المواجهة؟

في السادس من أيلول/ سبتمبر 2021، تمكّن ستة أسرى فلسطينيين من الهرب من سجن “جلبوع” في شماليّ فلسطين المحتلة، بحفر نفق بأدوات بدائية، قادهم إلى خارج السجن الإسرائيلي الأكثر تحصينًا. كان من بين الستة أربعة محكومين بالسجن المؤبد، أي المكث الأبديّ داخل السجن، حتّى الموت، والستة كلّهم من منطقة جنين.

لم تكن هذه هي المرّة الأولى، التي تجري فيها محاولة للهرب من سجون الاحتلال. التاريخ النضالي للفلسطينيين حافل بهذه المحاولات منذ الانتداب البريطاني على فلسطين، بعض المحاولات كانت تُحبط في مهدها، وفي بعضها يُعتقل الأسير سريعًا بعد تمكّنه من الخلاص، وفي بعض آخر تحوّلت عمليات الهرب إلى ملحمة مثّلت عنصرًا دافعًا نحو تعزيز الحالة الكفاحية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.

في التاريخ الفلسطيني الحديث، تمكّن ستة أسرى فلسطينيين، في السابع عشر من أيار/ مايو 1987، من الهرب من سجن غزّة المركزي. بعد أيام من عملية الهروب الناجحة، نفّذ قائد المجموعة مصباح الصوري عملية قَتَل فيها ضابط مخابرات إسرائيلي يُدعى “غاليلي غروسي” على مفترق ناحل عوز شرق الشجاعية في غزّة، وفي 2 آب/ أغسطس من العام نفسه، قتل سامي خليل أحد أفراد المجموعة؛ قائد الشرطة العسكرية الإسرائيلية في غزة ومسؤول معتقل “أنصار 2” المدعو “رون طال”.

في اشتباك لاحق اعتقل مصباح صوري مثخنًا بجراجه، ليستشهد في التحقيق في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 1987، إلا أنّ رفاقه الذين ظلّوا من خلفه، اشتبكوا مع الاحتلال في السادس من الشهر نفسه، فاستشهدوا جميعًا، وقتل ضابط إسرائيلي. كان ذلك قبل الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الكبرى بشهرين.

لم ينته مصير المجموعة في النتيجة، باستشهاد ثلاثة من عناصرها، واعتقال واحد، وتمكن اثنين من الخروج من فلسطين عبر سيناء، وإنما أخذت المجموعة موقعها في جملة العوامل التي ظلّت تدفع نحو انفجار الانتفاضة الفلسطينية الكبرى، ويمكن الآن تصوّر حالة الإلهام التي مثّلتها لجماهير الفلسطينيين في ذلك الحين، ابتداء من نجاح عملية الهروب، مرورًا بتنفيذ سلسلة عمليات نوعية، وانتهاء بالاستشهاد الملحمي للمجاهدين، لتنضمّ إلى سلسلة العوامل المتراكمة التي نهضت عليها واحدة من أعظم ملاحم الفلسطينيين الكبرى.

لم يكن مصير عملية الهروب من سجن “جلبوع” مماثلاً، ففي أقلّ من أسبوع اعتقل الاحتلال أفراد المجموع على مراحل. ثمّة فارق جوهري متعلق بالزمان والمكان بين العمليتين، فالأولى كانت داخل غزّة، بينما الثانية كانت في الداخل الفلسطيني المحتلّ عام 1948، أيّ في الوسط الإسرائيلي المعزول عن تجمعات الفلسطينيين الكبرى في الضفّة الغربية التي ينتمي إليها الأسرى اجتماعيًّا، كما أنّ الأولى كانت قبل زمن السلطة الفلسطينية، حيث العائق السلطوي المحليّ منتف، وقد راكم الاحتلال الإسرائيلي خلال هذه العقود الممتدة قدرات أمنية واستخباراتية، وأدوات ضبط وسيطرة، كاسحة.

إلا أنّ عملية الهروب من “جلبوع”، لم تكن لتخلو بدورها من عامل الإلهام، والإذكاء، والرفع للإرادة النضالية، وللروح المعنوية. النجاح النسبي للعمليّة بالهرب، والمحكوميات العالية للأسرى، وموقع العملية بعد معركة “سيف القدس” (أحداث أيار/ مايو 2021) بشهور قليلة، والتفاعل الفلسطيني الهائل مع العملية في زمن كثافة التواصل على مواقع الإنترنت. كلّ ذلك لم يكن ليمرّ دون أن يحفر عميقًا في الضمير الكفاحي للفلسطينيين، ودون أن ينضمّ إلى عوامل الدفع نحو المواجهة التي تتكاثر في الساحة الفلسطينية، وإن بنمط جديد، يتكيّف مع طبيعة الوقائع السياسية والأمنية والاجتماعية في المشهد الفلسطيني الراهن، المختلف عمّا كان عليه بين يدي الانتفاضة الفلسطينية الأولى أو حتّى الثانية.

معركة “سيف القدس” التي توّجت بها، سلسلة مواجهات موضعية في القدس، (ساحة باب العمود، وحيّ الشيخ جراح، واقتحامات المسجد الأقصى في رمضان)، يمكن عدّها المعركة الفلسطينية الثانية الأهمّ منذ انتهاء انتفاضة الأقصى، أمّا الأولى فكانت حرب العام 2014، التي يسمّيها الفلسطينيون “العصف المأكوول”، ويسميها الصهاينة “الجرف الصامد”، وبالرغم من أنّ الحرب في العام 2014، كانت أطول، وأكثر ملحمية، إلا أنّ معركة “سيف القدس”، كانت أعمق أثرًا، لكونها استكمالاً للآثار التعبوية لحرب العام 2014.

نقلت حرب العام 2014 الفلسطينيين من الآثار الثقافية والاجتماعية لمرحلة ما يُسمى “الانقسام الفلسطيني” إلى مرحلة الدفع نحو شقّ طريق كفاحيّ جديد، وأزالت التباس الصورة والموقف بين الفاعلين الرئيسيين في الساحة الفلسطينية الناشئ عمّا يسمى بـالانقسام، ومثلت عامل إلهام للجماهير في الضفة الغربية انعكس في السنة التالية (2015) في “هبّة القدس”، والثانية كرّست الوحدة المعنوية للفلسطينيين على قاعدة المواجهة، وكشفت ضعف العمق الإستراتيجي للعدوّ، وإمكان صناعة الفلسطيني للفارق إذا قرّر تجاوز موقع الضحية المستكينة إلى موقع الضحيّة الفاعلة، وأعادت حشد الجماهير العربية والكثير من الفعاليات الدولية حول القضية الفلسطينية من جديد، ووجهت ضربة واضحة لموجة التطبيع الحميمي التي كانت تهدف إلى كشف ظهور الفلسطينيين عربيًّا.

في هذه الأجواء التعبوية، وذات الزخم العالي، جاءت عملية الهروب الكبير من سجن “جلبوع”، لتندرج ضمن مفاعيل معركة “سيف القدس”، وتخلق التفافًا فلسطينيًّا كثيفًا طوال أسبوع كامل، لا بدّ وأنّه أخذ يخزّن في الضمير الفلسطيني العامّ معاني تعبوية عميقة، ستعبّر عن نفسها تاليًا بأنماط متعددة من الفعل المقاوم.

بالإضافة إلى ذلك، أثار هروب الأسرى الستة داخل فلسطين المحتلة عام 1948 في سعيهم للوصول إلى مدينة جنين، خيال الفلسطينيين. وبلا أيّ قصد لابتداع صور شاعرية، فإنّ القول بأن خيالات الفلسطينيين كانت تجول في الداخل المحتلّ تحاول أن تتصوّر أو تتوقع أحوال الأسرى الستة، هو قول دقيق تمامًا بلا أيّ مبالغة عاطفية أو أدبية، وقد صدّق ذلك تاليًا، احتفاء الفلسطينيين بقصص الأسرى الستة، في حديثهم عن تجوالهم وأكلهم وشربهم وحركتهم في الداخل المحتلّ، مما يمكن أن ينعكس تاليًا حالة إلهام في دفع الشبان الفلسطينيين للتجوّل في الداخل المحتلّ سعيًا لتنفيذ عمليات مقاومة، لا تندفع بفعل تجربة الأسرى الستة، بل بفعل عناصر التثوير المتعددة في الساحة الفلسطينية، ولكن تجربة الأسرى أعادت التذكير بمسارات العمل المقاوم في الداخل المحتل. (يُطلق الداخل المحتلّ على الأراضي المحتلة عام 1948).

لا يتوقف تأثير تجربة الأسرى الستة على هذا الجانب، فقد زامن تجربتهم، عملية إحياء لحالة المقاومة المسلّحة في منطقة جنين، والأسرى الستة عمومًا ينتسبون تاريخيًا إلى هذه الحالة، فتزامنت إحيائية المقاومة في جنين مع هروب ستة أسرى من المنطقة نفسها من سجن “جلبوع” مع معركة “سيف القدس”، مع استمرار المسجد الأقصى عنصرًا أهمّ في التثوير وإذكاء الصراع، مع تعرض الحركة الأسيرة لعمليات تنكيل شاملة وعميقة بعد عملية الهروب، لتندفع حالة المقاومة بأبعادها المنظّمة والذاتية من جنين سلسلة عمليات تضرب في الداخل المحتلّ، فإذا كان الأسرى الستة لم يتمكنوا من الوصول إلى جنين أو الاحتماء بها، فقد عوّضت جنين عن ذلك بسلسلة عمليات انتقلت بدورها إلى الداخل المحتلّ.

لم تكن آثار عملية الهروب من هذه النواحي فحسب، فلا شك أنّ إعادة اعتقال الأسرى في وقت سريع، بالرغم من الفعل الذي قارب المستحيل في التمكن من الهرب، قد تركت جرحًا عميقًا في نفوس الفلسطينيين، كان سيظهر ولا شك في صورة عمل مقاوم على يد أحدهم أو بعضهم، بيد أنّ المهم في رصد التجربة، ملاحظة دور العوامل التي قد تكون صغيرة حين اصطفافها من بين جملة عوامل التثوير، والبناء الذي ينهض على أكتاف المراكمة، وكيف يولّد الفعل الدافعية نحو فعل آخر.

**الآراء الواردة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر منتدى العاصمة**

مشاركات الكاتب