مرَّ شهر أكتوبر على الغالبيّة العظمى من المصريّين ثقيلًا، وكأنّه عام. ليس فقط لعدد أيامه (31 يومًا) وفقًا للتقويم الميلاديّ، وإنَّما لكثافة الأخبار غير السارّة خلاله، على العكس تمامًا من وعود الحكومة عن الانفراجة المرتقبة خلاله.
فَبينما كان أكتوبر في الوجدان الاجتماعي المصري معادلًا موضوعيًّا لسياقات من قبيل الانتظام الحقيقي للطلَّاب في الحضور الدراسيِّ بعد فوضى الأسبوع الأوَّل في سبتمبر في دلالة على الاستقرار، وبداية موسم جني ثمار الخير من محصول القطن. جنبًا إلى جنب مع الاحتفالات الرسميَّة السنويَّة بذكرى أهم انتصار عسكريٍّ في تاريخ مصر الحديث؛ فإنَّ النظام السياسيَّ -في تكثيف ملحوظ- لا يخلو من رعونة قد حوَّله إلى سياق قاتم تُستدعَى فيه النكسة بنصِّ حديث السيسي.
وعلى رأس الأخبار غير السارَّة الَّتي عكرت صفو أكتوبر شعبيًّا ووسَّعت خرقَ جيوبهم، جاءت زيادة أسعار الوقود للمرَّة الثّالثة في نفس العام، انتهاءً بالمشاهد المُقبضة لهدم الآثار التاريخيَّة ونبش قبور المصريّين في العاصِمة القديمة.
الخريطة
هلّ الشهر محمّلًا برائحة البارود، ففي جزيرة الورّاق على ضفاف النّيل شمال القاهرة، استمرّت المناوشات المتقطِّعة بين أهالي الجزيرة وبين قوّات الأمن الَّتي توافدت إلى المنطقة من أجل تنفيذ مخطط الدَّولة في طرد السكَّان من بيوتهم، بناءً على مقولات عدم مشروعيَّة هذا النموّ الديموغرافي العشوائي تاريخيًّا، وتمسّك الدولة بحقها في التّطوير العمرانيّ والاستثمار.
لسببٍ ما، تتّسم الاحتجاجات، والاشتباكات أحيانًا، بين المجتمع المحلّي وبين قوّات إنفاذ القانون بالخشونة -غير المميتة عادةً- والتحدّي والاستدامة وطول النَّفَس. وهو ما تجلَّى في رصد إصابات بالخرطوش والكدمات والأسلحة البيضاء، خلال تصدِّي الأهالي لعناصر الشرطة.
وعلى مقربة من الورّاق، ولكن في وسط اجتماعيّ أرقى، بمنطقة الزّمالك تحديدًا، داهمت قوّات شرطة ترتدي زيًّا مدنيًّا، وقفةً احتجاجيَّة، لا يتجاوز قوامها ستة أفراد، تضامنًا مع الشعبين الفلسطيني واللبناني خلال الذكرى السنويّة الأولى لطوفان الأقصى، في السّابع من أكتوبر.
لم تقاوم المجموعة الشبابيَّة بأيِّ شكل قوّات الأمن خلال فضّ الوقفة واحتجاز أفرادها، لينتهي الحدث الصّغير لاحقًا بإخلاء سبيل أربعة من الموقوفين من نيابة قصر النيّل بكفالة 5 آلاف جنيه، وإبعاد الاثنتين المتبقيتين إلى خارج البلاد لحملهما جنسية أجنبية، وهو ما يعيد إلى الأذهان حساسيّة الدولة تجاه التجمّعات، مهما كانت صغيرة وسلميّة، لا سيما إن كانت مناصرة للقضيّة الفلسطينيّة. وبحسب المفوَّضيّة المصريّة للحقوق والحريّات، فقد بلغ عدد معتقلي التضامن مع أحداث غزة 120 شخصًا في ربوع مصر منذ بدايتها.
وبعد ثلاثة أيّام، وباتجاه الحيّز العمراني المستحدَث في صحراء شرق البلاد بالعاصمة الإداريّة الجديدة، حيث مقرّ وزارة التعليم العالي بعد الهجرة الرسميَّة من القاهرة التاريخيَّة، احتجزت قوّات الأمن لساعات عددًا من طلبة “تعليم الغلابة والمكافحين” في الثانوية التجاريّة بنظام الخمس سنوات ممن نظموا وقفة احتجاجيَّة ضدّ ما اعتبروه عدم عدالة نظام التنسيق الَّذي صمِّم ابتداءً بحيث يقلّص المقبولين من هذه الفئة في الجامعات.
ولم تكن تلك الوقفة هي الأولى من نوعها لهؤلاء الطلّاب حيث سبق ونظَّموا وقفةً مشابهة يوم 30 سبتمبر الماضي، في محاولة لإيصال أصواتهم للمسؤولين بخصوص تعمّد استبعادهم من الكليّات الجامعيّة بعد كفاح طوال خمس سنوات. ووفقًا لروايات الحاضرين، فقد لوَّح الضابط المسؤول عن القوّة الشرطيّة بإمكان احتجاز الفتيات أيضًا، وليس الذكور فقط؛ في حال لم تُفضّ الوقفة فورًا.
وليس ببعيد من جهة الصلة والموضوع، بحلول 15 من أكتوبر، انفجرت موجة عارمة من الغضب، كان أبطالها طلّابَ إحدى الجامعات الَّتي صُمِّمَ نظام التنسيق لخدمتها، وهم طلّاب جامعة الجلالة إحدى الجامعات الأهليّة الّتي تبنّاها السيسي للحدِّ من هجرة الطلبة المصريين رفقة مصاريف بالدولار إلى روسيا وماليزيا، ولاستقبال طلَّاب الثانويَّة العامّة الحاصلين على مجاميع متواضعة من القادرين على تحمل دفع مصروفات باهظة في جامعات رسميَّة معترف بها، عوضًا عن سفرهم إلى الخارج والدفع بالدولار.
لثلاثة أيّام علَّق الطلّاب الدراسة وقرّروا الاعتصام داخل حرم الجامعة؛ احتجاجًا على ما أسموه إهمال الإدارة الَّذي أدّى إلى وفاة 12 على الأقلّ من زملائهم الطلبة في حادث سير لأتوبيس مرتبط بالجامعة يقوم بنقل الطلَّاب، ذهابًا وإيابًا، من الجامعة إلى نقاط محدَّدة في «الحضَر – العمران» خارج نطاق الجامعة المعزول في مدينة الجلالة.
لقد وافق الطلّاب على تعليق الاعتصام مبدئيًّا بعد وعود من الإدارة بتحسين مستوى الخدمات اللوجستية غير التعليميَّة، وتحميل السّائق المسؤوليّة الجنائيَّة عن الحادث بناءً على إيجابيَّة تحليل المخدرات عقب الواقعة الدمويّة.
تنوع جغرافيا الاحتجاج
ومن الجلالة إلى أبعد نقطة جنوب البلاد، رصدت وسائل إعلام محليّة في 16 أكتوبر، استخدام قوّات الشرطة القنابل المسيلة للدموع والخرطوش، بما أدّى إلى إصابات عشوائيّة في صفوف الأهالي، خلال فض احتجاجات على استبعاد أبناء إحدى قرى النوبة وتسمَّى “جبل تقوق” من التعيينات في شركة مياه الشرب والصرف الصحي، وألقي القبض على خمسة محتجين ثم أُخلي سبيلهم لاحقًا بعد ضغوط من الأهالي.
في السّياق ذاته، وفي نفس اليوم، قبضت قوّات الأمن على ستة موظفين سابقين لحضورهم مؤتمرًا لحزب المحافظين اعتراضًا على قانون 73 لسنة 2021، الخاص بفصل الموظّفين في القطاع الحكومي إذا ثبت تعاطيهم المواد المخدّرة.
ليست تلك المرَّة الأولى التي يضطرّ فيها المتضرّرون من ذلك القانون محاولة تنظيم صفوفهم، والاحتجاجَ على عواره التنفيذي والآثار الاجتماعيَّة السلبيَّة المترتِّبة على الواقعين تحت سيفه، إذ سبق لهم محاولات الاحتجاج أمام نقابة الصحفيين ومجلس النوّاب، وبلغ عدد المفصولين وفقًا للنائبة إحسان شوقي نحو 60 ألف موظَّف، وهو رقم وإن كان مبالغًا، إلا أنّه يشي بـ “مذبحة صامتة للمفصولين” ممن تعرَّضوا للوصم الأبدي، وحرموا من مصدر رزقهم.
ولعلَّ ذلك يفسِّر بعضًا من دوافع السّلطة لتفكيك الإرث البشري من القوَّة العاملة الحكوميَّة، بتقليص التعيينات الجديدة إلى حدّها الأدنى، والحدّ من الموجود فعليًّا لأسباب صحيّة أخلاقيّة مثل تعاطي المخدّرات أو سياسيّة – أمنيّة، مثل الانتماء إلى تنظيمات محظورة، وتصفيَّة المشروعات العملاقة.
وفي مطلع الثلث الأخير من الشهر، سُجِّل احتجاجٌ أهليّ داخليّ في إحدى قرى أطفيح بالجيزة، وتسمَّى البليدة، حيث قام المواطنون بإيقاف حركة القطارات بالقوّة مؤقتًا، احتجاجًا على دهس أحد القطارات المارّة بالقرية طفلين خلال توجههما للمدرسة الابتدائيّة صباحًا، مما أدَّى إلى اعتقال عددٍ من أهالي القرية.
نجاحات وإخفاقات
رُصِدَ احتجاجٌ ناجح لعمّال «الدلتا للسكر» -شركة استثماريّة- في كفر الشيخ، حيث تمكَّن العاملون من مواصلة الضغط حتَّى الإطاحة برئيس مجلس الإدارة، وتوسّع المطالب حاليًّا لتشمل إقالة النائب عادل أيّوب، نظرًا لتورّطه أيضًا في سوء إدارة متعمَّد وفقًا للعمّال.
وعلى العكس، تعنّتت قيادات قطاع الأعمال العام في وجه عمّال “مصر للألومنيوم” إحدى شركات القابضة للصناعات المعدنيّة، عندما بدأوا اعتصامًا جزئيًّا عن العمل، احتجاجًا على تقليص نصيبهم من الأرباح السنويَّة إلى النصف رغم تحقيق الشركة أرباحًا صافية تخطَّت 9 مليارات جنيه. وقد صرّح رئيس الشركة أحمد السعداوي برفض مطالب عمال الألومنيوم بالتعيين الدائم، قائلًا: محدّش يلوي ذراع الدولة. ولم ينتهِ الاعتصام إلَّا بعد تحذير العمّال من استمراره وتوسيعه بما قد يؤثر سلبًا في السلامة الفنيَّة لخلايا الإنتاج، وتدخّل قيادات برلمانيَّة وحكوميَّة للوصول إلى حلول وسط.
كما كشَّرت السلطة عن توحُّش ضارٍ جديد، ضمن مخطط إعادة هندسة عمران القاهرة، وتوسُّع نفوذ الأجهزة العسكريَّة أفقيًّا ورأسيًّا في الحياة المدنيَّة، عبر إصدار إخطار نهائيٍّ وفوريٍّ لحزمة من الهيئات الحكوميَّة الَّتي تتخذ من أراضي طرح النَّهر مقرّات لها، على مساحة تصل 70 ألف متر مربَّع، بضرورة الإخلاء في أسرع وقت ممكن.
تشمل تلك الجهات الإداريَّة والعمَّاليَّة الحكوميَّة المتضرّرة من الإخطار النادي الاجتماعي لأعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة، ونادي مستشاري النيابة الإداريَّة، وقضاة مجلس الدولة، إلى جانب جهات أقلّ زخمًا مثل حديقة أم كلثوم وكلية السياحة والفنادق التابعة لجامعة حلوان، وشرطة المسطَّحات المائيَّة.
انتهى الشهرُ بليِّ ذراع الدولة -رمزيًّا ومؤقتًا- ولكن في سياق غير عمّالي، حيث تعهَّد مسؤولون، منهم وزير الثقافة أحمد هنّو، بوقف حملة إزالة المقابر والجبّانات التاريخيّة بمنطقة الإمام الشافعي؛ بعد موجة غضب غير ميدانيّة، في مواقع الاتصال والأوساط النخبويّة ضدّ التوجّه البربري المعادي للثقافة والتّاريخ لصالح الربح والمادّة.
استنتاجات
تتسم تلك الاحتجاجات والوقفات والاعتصامات بالتشظّي وضعف التَّنظيم وعدم الخشونة، وذلك نظرًا لانقطاع الصلة بين القيادات العمَّاليَّة والنقابيَّة والأهليَّة وبين الشارع، نتيجة القبضة الأمنيَّة والقوَّة الباطشة المتراكمة خلال عقد، حتَّى أنَّه لم يسجَّل احتجاج واحد على قضيَّةٍ جامعة، مثل ارتفاع أسعار الوقود.
في نفس الوقت، تزداد وتتراكم المظالم رأسيًّا وأفقيًّا، إذ لوحظ في مناسبات سابقة اعتراض أهالي بعض المناطق ذات التكوين القبلي على نزع أراضيهم لصالح مشروعات تخصّ “شركات طلعت مصطفى” في الاتجاه الشمالي الغربي، كما لا يزال العشرات من أهالي سيناء محتجزين على ذمَّة القضيَّة 80 لسنة 2023 المعروفة بـ”حق العودة”.
بالرَّغم من التصريحات الرسميَّة الَّتي تروِّج لإنفاق 2 تريليون جنيه على مشروعات النقل كما قال السيسي خلال حضوره تدشين محطة قطارات بشتيل؛ فإنَّ حوادث الطرق والقطارات، والشكاوى من سوء الخدمة، لا تزال ملفًا حاضرًا على الساحة المصريَّة.
يلاحَظ أيضاً تنامي تغلغل القوَّات المسلَّحة في الحياة المدنيَّة بشكل ربما لا مثيل له في العالم، ومن تلك المؤسسات جهاز مشروعات الخدمة الوطنيَّة، وجهاز مستقبل مصر، وجهاز إدارة أراضي القوَّات المسلَّحة، والهيئة الهندسيَّة للقوَّات المسلَّحة.
أخيرًا ورغم ذلك؛ فإنَّ بعض تحرّكات النظام السياسي لا تعصف بالبسطاء فقط، وإنما كثيرًا ما ينتج عنها تناقضات تكون غير مرغوبة على الأرجح. فقد سبق وتصادمت السلطة مع سكَّان الأحياء الراقية في الزمالك والمعادي ومصر الجديدة ومدينة نصر لتنفيذ مشروعات تتعارض مع الهوية الثقافيَّة لتلك المناطق، مثل مترو الأنفاق وكنيسة البازيليك وإزالة الحيِّ السابع، وصولًا إلى شرائح تضم جهات سياديَّة كما هو الحال في أراضي طرح النهر.
اضغط لتحميل الملف