“أقطع الكهرباء ولا أغليها؟”: الحكومة تاجرًا والمواطن زبونًا

خلال افتتاحه أحدَ فاعليّات موسم حصاد القمح في الأراضي التي يزرعها الجيش جنوب غرب مصر نهاية مايو 2024، عاد السيسي مجدّدًا إلى تصريحاته المثيرة للجدَل بخصوص العلاقة بين الدولة والمواطن، وعلى رأس ذلك ملفّ الكهرباء. فقال نصًا: إنَّ الدولة يمكنها ضمانُ استدامة خدمة الكهرباء المنزليّة، شريطة أن يدفعَ المواطن ثلاثة أضعاف الفاتورة الحالية؛ وذلك في إشارة إلى نيَّة الحكومة تثبيت نظام تخفيف الأحمال السائد في البلاد منذ عامين تقريبًا. 

فوَفقًا لمنطق السيسي، إذا لم يكن بمقدور المواطن -الذي صار زبونًا- تحمل مضاعفة فاتورة الكهرباء المنزليَّة عدة مرّات؛ فلا مفرَّ من رضا الزبون، طوعًا وكرهًا، بسوءِ الخدمة المتمثّل في تخفيف الأحمال الإجباريّ في ذروة فصل الصيف.

تكلفة الفرصة البديلة 

المعطَى الأهم هنا لفَهم مضمون هذا الخطاب، هو إدراكُ أنَّ الدَّولة بالفعل قد رفعت الدعم كاملًا عن أسعار الكهرباء، أي أنَّ المواطن، على ضوء نظام الشرائح، يدفع تكلفة إنتاج الكهرباء كاملة غير مدعومة وفق ما يرد في الأوراق الرّسميَّة للموازَنة العامة منذ 2020. إذ تتحمَّل الشرائح الأعلى، ذات الاستهلاك الكثيف، من المواطنين جزءًا من الدَّعم الَّذي تحصل عليه بعض الشرائح الأدنى في تسعير بيع الكهرباء، فيما يعرف بنظام “الدعم التبادلي”، أو ترحيل الفوارق، لتصبحَ فاتورة دعم الكهرباء في الجداول الرسميَّة صفر.

ومن ثَمَّ؛ فإنَّ السيسي لا يقصد تحرير سعر الكهرباء، لأنَّه حاصلٌ بالفعل؛ وإنما يقصد، وهو ما اختلط على البعض، أن يتحمل المواطن (الزبون) كلفةَ وقف تصدير شحنات الغاز المسال المصريَّة إلى الخارج؛ إذا أرادَ أن يحصلَ على الخدمة باستدامة.

كيف وصلنا إلى هنا؟ 

في الواقع، يعدّ هذا التطوّر الخطير في مقايَضة المواطن: إمّا أن تتحملَ فوارق وقف تصدير المواد الخام إلى الخارج، أو تقبل بتردّي الخدمة الَّتي تدفع قيمتها كاملةً فصلًا جديدًا في مسلسل “مصّ دمّ” المواطن بالقوّة في ملف الكهرباء. فمنذ عام 2014، بدأت الدولة مخططًا تدريجيًّا لرفع الدعم عن الكهرباء خلال 5 أعوام، وهو ما حدث فعلًا عام 2020 وبالتّوازي مع تلك الخطَّة عملت الدَّولة على التوسّع في استخدام التقنيّة لضمان تحصيل ثمن الخدمة مقدَّما فيما يعرف بـ العدَّادات الكوديّة.

تنتَج تلك العدَّادات الجديدة في مصانع الإنتاج الحربي، ويجري تركيبها قسرًا في العقارات الجديدة، الَّتي تحتكر أيضًا الدَّولة وثلة من رجال الأعمال بناءها، كما يُعاقَب المستخدمون من أصحاب المديونيّات بسحب العدادات التقليديَّة وتركيب “الكارت مسبوق الدفع”.

وبعدَ إهدار المال العام في اقتراض المليارات لتدشين محطَّات طاقة ذات قدرات إنتاج تفوق الطلب المحليَّ، المنزلي والصناعي، على الكهرباء بأكثر من 20 غيغاوات، وفشل محاولات تصدير الطاقة بكميات ملائمة لأيٍّ من دول الجوار الأوروبي أو الإفريقي أو الخليجي، وفشل تسويق بيع المحطَّات نفسها؛ جاءت تلك المقايضة لتصبح المعادلة كالآتي: ادفع مقدمًا بالسعر العالمي، وتحمَّل فاتورة فوائد الاستدانة غير المدروسة، ثُمّ إذا أردت استدامة الخدمة، فلتدفع فارق تكلفة الفرصة البديلة! 

الحكومة تاجرًا 

 لقد توسعت الدولة بإطّراد في هذا النهج الخاص بتفضيل الأجنبي على المصري، والدولار على الجنيه، بالتزامن مع اشتداد وطأة أزمة السيولة الدولاريَّة الأخيرة عقب سحب الأجانب “المليارات الساخنة” كأثرٍ للحرب الأوكرانية الروسيَّة المندلعة في فبراير 2021. واستنكرَ السيسي عدة مرات شراء الدولة المنتجات الأساسية، كالقمح والوقود والدواء، من الخارج بالدولار وبيعه في السوق المحليَّة بالجنيه، إذ في نظره تعد تلك “معادلة خاسرة”. وهي القناعة الّتي أدّت إلى تقليص استيراد تلك السلع توفيرًا للدولار، وشحِّ المعروض في الأسواق، ووصول التضخُّم إلى مستويات جنونيَّة.

استفحل منطق حساب المواطن على ضوء تكلفة الفرصة البديلة والشبق الدولاريّ، فتجلَّى في أزمات بمنتجات مثل البصل والدجاج والدواء؛ إذ آثرتِ الدولة تصديرَ البصل الذي يكفي بالكاد داخليًّا إلى الخارج بالدولار قبل عام، ما أدّى إلى ارتفاع سعره محليًّا، وهو ما حدث في أزمة الدواء بحذافيره: وقف استيراد المواد الخام توفيرًا للدولار، مع تصدير الكميَّات المحلّية الموجودة في المخازن.

المآل

تنحدر العلاقة بين الدولة في مصر وبين المواطن إلى صيغة شديدة الاستغلال والابتذال، فالدولة تحتكر الخدمات الأساسية ولا تسمح لأحد بمنافستها، وتقيمها بالسعر العالمي، وتقدمها في صورة رديئة، ثُمَّ تطلب من “الزبون” تسديد فواتير أخطائها، ولا تسمح له حتَّى بالاعتراض.

لا يؤدي نمط حساب “تكلفة الفرصة البديلة” إلى ضرب العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن وحسب، وإنما يترتب عليه عادةً خسائر غير مرئية، فلتوفير 450 مليون دولار شهريًّا عوائد تصدير الغاز وقطع الكهرباء، يتحمل المجتمع فاتورة استيراد المولدات والبطاريَّات، فضلًا عن تضرر الأمن الاجتماعي والسياحة.

أخيرًا، يفسر إدراك توسع الدولة في هذا الخط من الإدارة أسبابَ عدم إحساس المواطن بعوائد مشروعات مثل الصوب الزراعية والمزارع السمكية، إذ يذهب معظم الإنتاج للتصدير، وحتى عزوف الدولة عن زراعة القمح لصالح محاصيل أكثر ربحًا، كما قال السيسي.

مشاركات الكاتب