كيف أدارت طالبان عملية التفاوض مع واشنطن؟
التطورات التي مرت بها أفغانستان خلال الآونة الأخيرة لم تكن ذات أبعاد عسكرية وسياسية وأمنية فقط إنما جاءت تتويجا لعدة مسارات من بينها مسار التفاوض بين طالبان وواشنطن. وفي ظل وجود أوضاع شبيهة تمر بها العديد من بلاد العالم الإسلامي، يصبح من المفيد تحليل كيف أدارت طالبان عملية التفاوض مع الدولة الأقوى عالميًّا.
مسار التفاوض
في يونيو 2011 أعلن وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس بدء المفاوضات مع حركة طالبان، لكن مسيرة التفاوض تذبذبت إلى أن بدأت المفاوضات المباشرة بين الطرفين في يونيو 2018، فواشنطن كانت ترفض سابقا التفاوض المباشر مع طالبان باعتبارها حركة إرهابية، لكن مع فرض طالبان لواقع ميداني تزداد فيه سيطرتها، قبلت واشنطن بالجلوس مباشرة مع قيادات طالبان. وفي نفس العام أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية تعيين السفير الأمريكي السابق بالعراق والأفغاني الأصل “زلماي خليل زاده” مبعوثا خاصا للتفاوض مع طالبان، فيما أطلقت باكستان في 28 أكتوبر 2018 سراح النائب السابق لمؤسس الحركة الملا عمر “الملا عبدالغني برادر” بعد اعتقاله ثمان سنوات لدى إسلام آباد. ومن ثم تولى برادر رئاسة المكتب السياسي لطالبان، وقاد فريق التفاوض الطالباني مع واشنطن.
وفي 17 ديسمبر 2018 انعقد في أبوظبي لقاءٌ استكشافيٌّ ضم وفودًا من أمريكا والإمارات والسعودية وباكستان فضلا عن وفد من طالبان وآخر من الحكومة الأفغانية، لكن الوفد الطالباني رفض مقابلة الوفد الحكومي الأفغاني، ولم يسفر اللقاء عن شيء. ثم اعتمدت واشنطن وطالبان الدوحة كمقر للتفاوض المباشر. وفي 29 فبراير 2020 جرى الإعلان عن التوصل لاتفاق بين الطرفين، وبالتحديد بين الملا برادر كممثل عن طالبان وزلماي خليل كممثل عن واشنطن، وذلك بحضور ممثلين من 18 دولة من أبرزهم وزيري خارجية باكستان وتركيا. ونص الاتفاق على:
- خفض عدد القوات الأمريكية في أفغانستان من 13000 فرد إلى 8600 قبل حلول منتصف يونيو 2020 ثم سحب بقية القوات الأمريكية بحلول نهاية إبريل 2021.
- إطلاق سراح 5000 من عناصر طالبان من السجون الأفغانية مقابل إفراج الحركة عن ألف فرد من القوات الحكومية بحلول 10 مارس 2020.
- رفع اسم طالبان من قائمة العقوبات الخاصة بمجلس الأمن.
- تعهد طالبان بعدم السماح باستخدام الأراضي الأفغانية لشن هجمات على دول أخرى.
وخلال جولات التفاوض رفضت طالبان إشراك الحكومة الأفغانية في عملية التفاوض، ومن ثم حاول أشرف غني عرقلة نتائج الاتفاق حيث أعلن في 1 مارس 2020 أنه غير ملتزم بهذه الاتفاقية، ورفض في البداية إطلاق سراح أسرى طالبان ثم استجاب للأمر الواقع وأفرج عن 4600 فقط من عناصر طالبان. وفي 22 مارس بدأت أولى جلسات التفاوض بين طالبان والحكومة الأفغانية عبر سكايب. ثم حدثت لقاءات مباشرة في العاصمة كابول. وبالتزامن مع ذلك أعلنت إدارة بايدن مراجعتها للاتفاق الذي عقدته إدراة ترامب، وأعلنت تأجيل موعد الانسحاب إلى سبتمبر 2021 بدلا من أول مايو من ذات العام، وهو ما رفضته طالبان. وفي ظل تأخر إطلاق سراح بقية أسرى طالبان، أعلنت الحركة في 7 إبريل سحب وفد التفاوض الذي أرسلته إلى كابول اعتراضا على عدم التزام واشنطن والحكومة الأفغانية بالاتفاقية، واستمرار الغارات الجوية ضد مناطق سيطرة الحركة. ثم في أغسطس 2021 شنت طالبان هجومها الكبير على عواصم الولايات والعاصمة كابول، وتمكنت من إطلاق سراح كافة أسراها في حين هرب الرئيس الأفغاني أشرف غني رغم وعده لوزير الخارجية الأمريكي بلينكن بأنه سيقاتل للنهاية.
دروس من عملية التفاوض
1 – التفاوض المباشر دون وسيط
حرصت طالبان على التفاوض المباشر مع واشنطن دون السماح باشتراك أطراف أخرى في عملية التفاوض، كما لم تسمح الحركة لأي دولة بالمفاوضة نيابة عنها. فخلال التفاوض على الانسحاب الروسي من أفغانستان في ثمانينات القرن المنصرم لعبت باكستان دور المفاوض نيابة عن الأحزب الأفغانية. وهو ما رفضت طالبان تكرار حدوثه. تلك المقاربة سمحت لطالبان بالتمسك بمطالبها دون الارتهان لمصالح أو ضغوط الدول الحليفة، وأوصلت رسالة واضحة باستقلالية قرارات الحركة ورفض أي إملاءات من أطراف خارجية.
2-التفاوض على جلاء الاحتلال وليس مستقبل النظام السياسي الأفغاني
فاوضت طالبان واشنطن على خروج القوات الأمريكية، ورفضت إدراج شكل النظام السياسي المستقبلي لأفغانستان ضمن عملية التفاوض باعتبارها قضية تخص الأفغان ولا علاقة للمحتل بها، ومن ثم رفضت نقاش من الذي سيحكم أفغانستان أو شكل النظام السياسي الجديد الذي سيخلف الاحتلال والحكومة التي أنشأها. وقد ساهم إعلان أمريكا الانسحاب دون عَقد تسوية سياسية تضمن مستقبل حلفائها الأفغان في انهيار معنويات عناصر الحكومة الأفغانية وتلاشي الإرادة القتالية لدى عناصر الجيش الأفغاني، وهو ما عجل بانهيار حكومة أشرف غني على وقع تقدم قوات طالبان.
3-وضوح المطالب وعدم التفريط بها، وتماسك وفد التفاوض
تمسكت طالبان بمطالبها التي رفعتها من البداية، والمتمثلة في خروج المحتل دون قيد أو شرط. وظلت طوال سنوات التفاوض متمسكة بذلك، كما نجحت في الحفاظ على تماسك صفها التنظيمي، وبالأخص وفدها التفاوضي. ففي العديد من تجارب التفاوض تنجح الأطراف المعادية في شق صف خصومها، وتقسيمه إلى صقور وحمائم ومتشددين ومعتدلين، ومن ثم يبدأ التواصل مع المعتدلين ونبذ الآخرين، وهو ما يؤدي إلى إضعاف الصف وصولا إلى إحداث خلافات حول المطالب المرفوعة، وقبول البعض بسقف مطالب أقل.
4- رفض عقد جلسات تفاوض على أراضي دول شاركت في غزو أفغانستان
أصرت طالبان على عقد جلسات التفاوض المباشرة في الدوحة، ورفضت حضور أي جلسات أو لقاءات على أراضي دول انخرطت ضمن قوات الناتو التي شاركت في احتلال أفغانستان، والتي قارب عددها 42 دولة. وهي رسالة من طالبان للشعب الأفغاني بأنها تحترم تضحياته ولا تتسامح مع الجرائم التي ارتكبها الاحتلال.
5-اعتماد الحلول الميدانية لتجاوز عقبات التفاوض
في مراحل متنوعة تلكأت واشنطن في تنفيذ بنود الاتفاق. كما حاولت واشنطن الضغط على طالبان لقبول الانخراط ضمن حكومة أشرف غني وتسليم تأمين مطار كابول لدول أجنبية. وهو ما رفضته طالبان، بل واعتمدت حلولًا ميدانية عبر سيطرة قواتها على عواصم الولايات ودخول العاصمة كابول مما فرض واقعا جديدا على واشنطن التي تفاجأت بسرعة انهيار الحكومة الأفغانية، وواجهت عقبات في إجلاء العناصر الأفغانية المتعاونة مع الاحتلال، ومن ثم ظهر الانسحاب الأمريكي بصورة مهينة غير مسبوقة.
في المحصلة نجحت طالبان في توظيف المفاوضات لجني ثمار نضالها العسكري، وكسرت الصورة الذهنية التي ترسخت عبر تجارب إسلامية أخرى بأن التفاوض نظيرٌ للتنازل، وهي تجربة جديرة بدراسات معمقة تتناول أبعادها المتنوعة.
المصالحة الداخلية في مصر بين الواقع والأماني
كيف أدارت طالبان عملية التفاوض مع واشنطن؟
اضغط لتحميل الملف