مقدمة:
لا يخفى على أحد أنّ يوم 25 يوليو 2021 كان لحظة تاريخية فارقة في تاريخ تونس المعاصر. إذ أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد إثر احتجاجات متفرقة في بعض ولايات الجمهورية استهدفت مقرات حزب حركة النهضة عن إجراءات استثنائية مستندًا إلى الفصل 80 من دستور الجمهورية التونسية [1]. فتصاعدت بعدها وتيرة التدابير المتّخذة من قِبَله وتجاوزت المهلة والإجراءات المنصوص عليها: فبعد قرار تجميد البرلمان التونسي في 25 يوليو 2021، أمر بحلِّه يوم 30 مارس 2022 وحلّ المجلس الأعلى للقضاء في 5 فبراير 2022 ليعيّن آخر عوضًا عنه. وقام أيضا بتفكيك الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في 20 أغسطس 2021. ثمّ عطّل الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات وعيّن هيئة بديلة عنها يوم 22 أبريل 2022 ليعلن عن تقويم انتخابي ينطلق باستفتاء يوم 25 يوليو 2022 على دستور جديد تخطّه لجنة استشارية عيّنها الرئيس التونسي بموجب المرسوم 30 لسنة 2022.
لاقت الإجراءات الاستثنائية قبولًا شعبيًّا واسعًا في الوهلة الأولى نظرا للأجواء المشحونة التي كانت تسيطر على جلسات البرلمان التونسي والتي كانت تبث مباشرة فرسَّخت صورة مشوهة عند عموم الناس عن العمل البرلماني ، ونظرا لتدهور الاقتصاد التونسي واحتقان الوضع الاجتماعي. فقد كان المزاج الشعبي قابلًا لأي مبادرة تغييرية مهما كان مضمونها أو الجهة الداعية إليها، فما بالك إذا كانت هذه الجهة رئيس الجمهورية الحاصل على أكثر من 70 % من الأصوات في انتخابات 2019. وانقسمت الساحة السياسية في تونس إلى موقفين رئيسيين من هذه الإجراءات بين مناصر لها ومعتبر إياها تصحيحًا لمسار الثورة وتخليصًا للدولة التونسية من لوبيات الفساد ومن منظومة أثبتت عجزها عن حل الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية ، وبين معارضٍ لها ومعتبرٍ إياها انقلابًا على دستور 2014 ومغامرة شعبوية لن تزيد الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد إلا غموضا وتفككا وتدهورا.
أما الآن وبعد مرور 10 أشهر، فقد فَقدَ قيس سعيد قاعدة عريضة من مناصريه في الساحة السياسية الذين بدؤوا ينفَضُّون من حوله بعد كل إجراء من الإجراءات التي استهدف فيها مؤسسات الدولة المستقلة معتبرين أنه قد حاد عن مسار التصحيح نحو إنشاء نظام سياسي خاص به ويخدم مصلحته ويكرس الديكتاتورية والحكم الفردي ويأتي على مكتسبات الثورة. أما على المستوى الشعبي، فإن الخيبة من لحظة 25 يوليو بدأت تأخذ مكان القبول الشعبي تدريجيا نظرا لتأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ولكن دون أن تسقط نسبة شعبية الرئيس تحت 50 %.
ورغم اتساع قاعدة المعارضة وتقلّص دائرة أنصار قيس سعيد فإن ذلك لم يحسم بعد المسار ولم يرجّح أي من الكفّتين فظلّت الساحة التونسية محكومة بتكافؤ موازين القوى أو ما يمكن أن يعبّر عنه بتوازن العجز، مع أفضلية نسبية للرئيس بحكم أنه يملك مقدرات الدولة وأجهزتها الصلبة.
فأين تمضي تونس؟
إلى أي وجهة تسير دفتها الاقتصادية والاجتماعية؟
وأنّى يولّيها سياسيوها؟
- الجانب الاقتصادي:
تعيش البلاد التونسية منذ ثورة 2011 على وقع أزمة اقتصادية تزداد يوما بعد يوم حدّة. ورغم أن رئيس الجمهورية قد استغلها لفرض إجراءاته الاستثنائية ، إلا أن هذه الإجراءات قد عمقتها . ولعلّ أبرز عوامل هذه الأزمة التراجع المستمر لمعدّلات الاستثمار الداخلي والخارجي. ومن المعلوم أيضا أنّ تونس لم تكن في معزل عن العالم الذي عانى من أزمة جائحة كورونا الأمرَّين ولعلّنا لا نبالغ إن قلنا إنّ تونس وجلّ بلدان العالم الثالث كانت الحلقة الأضعف والمتضرّر الأكبر من تداعياتها على اقتصاداتها الهشّة . فقد تكبدت تونس خسائر مالية هامة في قطاع السياحة الذي يعتبر أحد أهم روافع الاقتصاد الوطني.
ثمّ ما لبثت الجائحة أن مرّت، حتّى اندلعت حرب أوكرانيا وروسيا ففاقمت الكساد وزادت الطين بلّة ، إذ أثّرت بصفة مباشرة على أسعار الحبوب والمحروقات وتبعا لذلك على صندوق الدعم الوطني المتكوّن أساسا من المواد الأساسية المشتقة من الحبوب ومن المحروقات، مما فاقم الاختلال الحاصل في ميزانية الدولة بين تقديرات الحكومة وضغط الواقع الدولي. كما تراجعت الصادرات أحد شرايين البلاد من العملة الصعبة إذ بلغ عجز الميزان التجاري 1960,3 مليون دينار في الثلاثي الأوّل من سنة 2022 حسب المعهد الوطني .
ولطالما كانت الدولة التونسية تلجأ في مثل هذه الظروف إلى الحلول التقليدية من اقتراض داخلي وخارجي لتخفّف من وطأة العجز المالي ، فحسب الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان تحتاج تونس إلى قرض بقيمة 20 مليار دينار في السنة الجارية[2]، إلّا أنّ إجراءات 25 يوليو أدخلت البلاد التونسية في وضع سياسي غامض وفككت مؤسسات الدولة وجعلت المؤسسات المالية الدولية تنظر بعين الريبة والشك للمسار الذي دخلت فيه البلاد، الأمر الذي زاد من صعوبة الاقتراض الخارجي وعطّل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وهو ما جعل وكالات التصنيف الائتماني تخفض من تصنيف البلاد السيادي كما يجعلها تقترب يوما بعد يوم من هوّة الإفلاس.
- الصعيد الاجتماعي
لا شكّ في أنّ حلقات الأزمة مترابطة ، ولابدّ للأزمة الاقتصادية أن تلقي بظلالها
على الوضع الاجتماعي. إذ أدى تراجع الاستثمار الداخلي والخارجي إلى تقلص مواطن الشغل فتفاقمت نسبة البطالة في الثلاثي الأوّل من سنة 2022 لتبلغ 16,1%. كما أدى ارتفاع نسبة التّضخّم التي بلغت 7% في أبريل الماضي إلى انهيار المقدرة الشّرائيّة لعموم المواطنين.
ساهمت كلّ هذه العوامل في زيادة الغليان الاجتماعيّ . ومع ذلك، فإننا نرجّح أن لا يتطوّر هذا الغليان إلى انفجار اجتماعيّ ضدّ سلطة 25 يوليو وذلك لجملة من الأسباب نلخّصها في:
- تفشّي حالة الإحباط واليأس من إمكانيّة تغيير جذريّ في الأوضاع الاجتماعيّة عن طريق الاحتجاج والتّظاهر الّذي صار يُعدّ سلاحًا فاقدا لبريقه وفعاليّته من فرط استعماله خلال العشريّة السّابقة.
- مازالت جل الأوساط الاجتماعيّة تحمّل المسؤوليّة لمنظومة 24 يوليو (النّهضة وحلفاؤها)، خاصّة وأنّ الرسالة المسيطرة على مختلف وسائل الإعلام ترسّخ هذه الفكرة وتدعو إلى مسايرة أوضاع ما بعد 25 يوليو بتعلّة أنّها من تبعات الوضع العالميّ ومخلّفات حكم النّهضة.
- عدم انخراط اتّحاد الشّغل في تحرّكات احتجاجيّة واسعة والاكتفاء بمسايرة الانقلاب والاكتفاء بمواقف سياسيّة ناعمة دون المصادمة ممّا يوفّر أجواء اجتماعيّة هادئة نسبيا مقارنة بتحرّكاته طيلة السنوات العشر التي لحقت الثورة.
- المسارات السياسية:
إنّ المدقق مع المآلات السياسية التي يتخذها الشأن التونسي بعد 25 يوليو 2021 يرى جليا أنّه يدور حول سيناريوهات ثلاثة تتجاذبه دون أن يحسم هذا التدافع لصالح أحدها.
أمّا السيناريو الأوّل فهو الأضعف، حسب تقديرنا، وهو العودة إلى ما قبل 25 يوليو مما يعني عودة البرلمان المنحل إلى العمل وتشكيل حكومة وطنية تنبثق عنه. وهو الخيار الذي تتبنّاه جبهة الخلاص الوطني[3] ومواطنون ضد الانقلاب وحركة النهضة وحلفاؤها. وينبني هذا الخيار على رفض مطلق للإجراءات الاستثنائية وعن كل ما انبثق عنها من تدابير ومؤسسات ومراسيم ، ويعتمد على تحريك الشارع في مواجهة الرئيس من جهة وتوسيع الجبهة السياسية من جهة أخرى والتعويل على الدعم الأجنبي خاصة الأوروبي والأمريكي الرافض لموجة الحكم الشعبوي التسلطي في العالم خاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
ويبدو هذا الخيار الأضعف إذ أن هذه الجبهة لم تفلح إلى حد اليوم في تحريك الشارع بطريقة تقلب موازين القوى، فمازالت التحركات الميدانية تضم النواة الصلبة من قواعد حركة النهضة دون أن تتعداها إلى عموم أنصار هذه الحركة فما بالك بعموم الشعب التونسي. كما لم تفلح هذه الجبهة أيضا في توسيع قاعدتها السياسية لتشمل الأحزاب السياسية من أقصى اليسار والوسط الديمُقراطي الاجتماعي المناهضة لقيس سعيد، والمنظمات الوطنية الفاعلة في المشهد السياسي مثل الاتحاد العام التونسي للشغل والتي خيرت جميعها انتهاج خيار ثالث مختلف عن الرئيس وعن جبهة الخلاص. وزيادة على ذلك، فإن سلوك الأجهزة الصلبة للدولة إزاء هذه الجبهة في بعض المحطات الميدانية لا يشير بقبول هذا الخيار لدى المتنفذين داخل هذه الأجهزة.
وأمّا السيناريو الثاني فهو نجاح مشروع قيس سعيد والسير نحو الاستفتاء الشعبي وإصدار دستور جديد في 25 يوليو 2022. ينبني هذا السيناريو بالأساس على شخصية الرئيس التي يعجز كل المتابعين للشأن التونسي عن تصنيفها ضمن أي قالب من القوالب المتعارف عليها لرجال السلطة. فهو شخص لا يؤمن بالحسابات السياسية ولا يفكر ضمن أي إطار معهود ، بل يمضي بكل ما أوتي من قوة نحو ما يريده. كما ينبني هذا السيناريو على مسايرة الأجهزة الصلبة لمشروع الرئيس ووقوفها بجانبه والالتزام بتنفيذ قراراته وفق العقيدة التي تحكمها منذ عقود والقائمة على الولاء للقائد الأعلى للقوات المسلحة، إضافة إلى اكتفاء القوى الأجنبية بممارسة الضغوط الدبلوماسية دون المرور إلى إجراءات واضحة ضد منظومة 25 يوليو. ومع ذلك، رغم أن هذا السيناريو كان مرجّحا فقد أخذت الفرص أمامه في التضاؤل يوميًّا. فقاعدة المعارضة ،كما ذكرنا آنفا، تتّسع شيئا فشيئا لتضمّ الاتحاد العام التونسي للشغل وأحزابا التزمت الحياد سابقا وأحزابا تمّ إقصاؤها من الحوار الوطني، كما أن الضغوط الدبلوماسية قد تتخذ منحىً تصاعديًّا ضد مشروع قيس سعيد خاصة بعد رفض لجنة البندقية لمسار الاستفتاء واعتباره مناقضا لدستور البلاد ولا يستجيب للمعايير الدولية. كما أن القاعدة الشعبية للرئيس تتآكل شيئا فشيئا أمام تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
وأمّا السيناريو الأخير المحتمل والأرجح، إن توفّرت له أسباب النضج وتوفّرت له الظروف اللازمة، فهو حوار وطني يدعمه الاتحاد العام التونسي للشغل ويضمّ جميع القوى السياسية والوسطاء مع قيس سعيد وينطلق من قاعدة إجراءات 25 يوليو لا مما قبلها. ينبني هذا الخيار على التأثير الدولي والوطني التي مازالت تحظى به النقابة العمالية وعلى قدرتها على التجميع مهما كانت التحفظات التي تحملها المؤسسات المالية الدولية إزاء الاتحاد لدوره في تعطيل الإصلاحات الهيكلية المطلوبة، والتي تحملها بعض الأطراف السياسية في البلاد التي تعتبر المركزية النقابية واقعة تحت تأثير أقليات سياسية تفرض بالاتحاد ما لا تستطيع فرضه بصناديق الاقتراع. كما أن هذا الخيار يحظى بمقبولية لدى دوائر النفوذ في البلاد المنزعجة من مشروع قيس سعيد الشعبوي من جهة والمنزعدة أيضا وبصفة أكثر وأعمق من أي إمكانية رجوع لحركة النهضة إلى واجهة تدبير الشأن العام في تونس.
خاتمة
على قدر ما تتسم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس بوضوح منحنى سيرها نحو مزيد من التأزم والاحتقان، على قدر ما تتسم الأوضاع السياسية فيها بضبابية منحنى سيرها. إذ لا يختلف اثنان اليوم في تونس على أن البلاد سائرة بخطى حثيثة نحو الإفلاس، بينما لا يكاد يتفق اثنان على أي السيناريوهات السياسية التي سترسو عليها البلاد من ناحية وضعية مؤسسات دولتها والعقد الاجتماعي الذي يسوس شعبها. ولكن الواضح يبقى دوما أن البلاد أضاعت على نفسها فرصة ذهبية لترسيخ الديمقراطية السياسية فيها وجعلها في عيون الناس الطريقة الأمثل لإدارة شؤونهم وتغيير أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية نحو الأفضل.
[1] الفصل 80 الدستور التونسي
[2]في تصريح إذاعي له على راديو ديوان اف ام يوم 31 ماي 2022.
[3]جبهة الخلاص الوطني: هي تجمع يضم عدة كيانات سياسية تونسية معارضة لما قام به الرئيس قيس سعيد من تعليق لمجلس النواب، وغيرها من الإجراءات التي تعتبرها الجبهة إنقلابًا على الشرعية.تأسست في 31 مايو 2022، برئاسة أحمد نجيب الشابي.
اضغط لتحميل الملف