فورين بوليسي – جون ألترمان ودانييل بايمان
بينما لا تزال إسرائيل وحماس عالقتين في الصراع فإنَّ الأضواء الدبلوماسية تتحول نحو مصر، فقبل الحرب كانت مصر مهمشة بشكل متزايد في السياسة العربية، حيث هُمشت على خلفية انتفاضة يناير 2011 وتداعياتها، فضلًا عن معاناتها من أزمة اقتصادية عميقة، لكن عندما يتعلق الأمر بغزة، فإنَّ مصر لديها مصالح حاسمة بالإضافة إلى نفوذها القوي، لذا فرغم أنَّها ستشكل شريكًا صعبًا للولايات المتحدة وإسرائيل والعديد من حلفائهم الغربيين، فإنَّ مصر كانت وستظل لاعبًا أساسيًّا في الاستجابة الدولية للحرب.
إنَّ تاريخ مصر مع حماس مفعم بالأحداث، فقد كان للجيش المصري اهتمام دائم بقطاع غزة منذ أن سيطر عليه مدة عقدين تقريبًا بعد إعلان تأسيس إسرائيل في عام 1948، وظل متناغمًا مع البيئة الأمنية في المنطقة، كما أنَّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مثل العديد من أسلافه، يعادي بشدة حماس التي انبثقت من حركة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر عبر أغلب تاريخها منذ تأسيسها.
ومع ذلك يتمتع القادة المصريون أيضًا بتاريخ طويل من التعامل مع حماس، خاصة بعد أن أصبحت الحاكم الفعلي لغزة بعد سيطرتها على القطاع في عام 2007. وفي الأزمات الماضية عملت مصر محاورًا مع حماس، حيث سهلت عمليات تبادل الأسرى وساعدت في التفاوض على وقف إطلاق النار.
تطرح مصر الكثير على الطاولة بينما يسعى العالم إلى إيجاد حل للصراع في غزة، ولعل الأمر الأكثر إلحاحًا هو سيطرة مصر على معبر رفح، فهو نقطة الدخول الرسمية الوحيدة التي لا تسيطر عليها إسرائيل إلى قطاع غزة.
وفي الماضي فتحت مصر هذا المعبر وأغلقته للضغط على حماس، واليوم أصبح هذا الخط شريان حياة حيويًّا لإيصال المساعدات الدولية إلى غزة التي تواجه أزمة إنسانية هائلة. ومن المرجح أيضًا أن يكون معبر رفح بمثابة نقطة خروج لرعايا الولايات المتحدة والدول الأخرى لمغادرة منطقة الحرب، ولإسرائيل أيضاً مصلحة في العمل مع مصر لضمان عدم دخول الأسلحة والإمدادات العسكرية الأخرى إلى غزة عبر معبر رفح.
وبالإضافة إلى رفح بَنَت حماس شبكة من الأنفاق من غزة إلى مصر، وكثيرًا ما مكنت هذه الأنفاق المواطنين في غزة من شراء البضائع المهربة، مثل الماشية والمنتجات الاستهلاكية الأساسية، وكثيرًا ما أذعنت إسرائيل لهذا التهريب لتجنب حدوث أزمة إنسانية، ومع ذلك استخدمت حماس وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلحة أيضًا هذه الأنفاق لتهريب الأسلحة إلى غزة كما يمر المقاتلون الفلسطينيون عبرها للسفر لتلقي التدريب العسكري في لبنان وأماكن أخرى.
سبق أن قالت مصر إنَّها عاجزة عن وقف التهريب عبر الأنفاق، ولا شك أنَّ بعض المصريين يستفيدون من هذه التجارة، ومع ذلك فإنَّ التمرد المستمر منذ فترة طويلة في المنطقة المجاورة للحدود من الجانب المصري، دفع الجيش المصري إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد شبكة الأنفاق في السنوات الأخيرة، ومن المرجح أن تطالب إسرائيل بوضع حد لهذا التهريب كجزء من أي جهد تفاوضي أوسع.
وعلى الرغم من أنَّ مصر ليست متعاطفة مع حماس، فإنَّ الأخيرة لديها سجل في التوصل إلى تفاهمات مع الجيش المصري، لذا فبينما تعهد وزير الدفاع الإسرائيلي بمحو حماس “من على وجه الأرض”، دون ترك مجال كبير للتوصل إلى تسوية، تركت حكومة السيسي الباب مفتوحًا للتوصل إلى تفاهمات ضرورية.
من الصعب أن نتكهن بمن سيتولى السلطة السياسية في غزة في الأشهر المقبلة، ولكن أيًا كان فسوف يسعى إلى التفاوض مع المصريين، وعلى أقل تقدير فإنَّهم يريدون تدفق المساعدات الدولية إلى غزة، وقد تحاول بعض العناصر المتبقية من حماس أيضًا الحفاظ على بعض القدرة على الأقل لتهريب الأسلحة وغيرها من الضروريات العسكرية. ومن المرجح أيضًا أن يسعوا إلى الحصول على قدرة محدودة على إرسال الأشخاص إلى خارج القطاع، بما في ذلك كبار المسؤولين الذين قد يخرجون للنجاة من العمل العسكري الإسرائيلي؛ ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أنَّ أي جهة ستبقى موجودة في غزة ستسعى إلى الحصول على ضمانة مصرية لأي اتفاق يُوَقَع عليه في نهاية المطاف لإنهاء القتال.
وبطبيعة الحال ستضغط إسرائيل على القاهرة لوقف أي تهريب واعتقال أي مسؤول في حماس قد يحاول السفر إلى مصر، وستحدد مصر شروط هذا الاتفاق.
إنَّ الشعب الفلسطيني في غزة وكذلك حماس -أو أي حكومة بديلة قد تنشأ- ليس لديهما عرضًا ضخمًا ليقدموه لمصر، لكن لديهما بعض الأصول؛ إذ يمكنهم استخدام نفوذهم لزيادة أو تقليص الأمن في شبه جزيرة سيناء ويمكنهم تقاسم عائدات التهريب ويمكن لحلفائهم أيضًا مكافأة المصريين الذين يغضون الطرف عن التهريب، والأمر الأكثر أهمية هو أنَّه إذا كان البديل المصري للتفاهم مع حماس أو خلفائها هو العنف والفوضى في منطقة متاخمة لمصر، فإنَّ التفاهم يبدو أكثر جاذبية.
لدى مصر الكثير على المحك فيما يتعلق بانخراطها في غزة، لقد هُمشت مصر التي كانت ذات يوم مركزًا للسياسة والثقافة العربية، مع تزايد مشكلاتها وتحول انتباه العالم نحو الخليج. أما حكومة السيسي فإنَّ القيام بدور مركزي في قضية عربية بارزة مثل الحرب بين إسرائيل وحماس يجلب وزنًا وإنجازًا لحكومة تكافح كفاحًا متزايدًا في الداخل المصري
كذلك يمكن لمصر الاستفادة اقتصاديًّا من نفوذها في هذا الصراع، فقد تفاوض الرئيس السابق حسني مبارك على أكثر من 10 مليار دولار لتخفيف الديون الخارجية من الولايات المتحدة وحلفائها مقابل انخراطه في حرب الخليج عام 1991، وإنَّ فورة الاقتراض في القاهرة في السنوات الأخيرة تعني أنَّ الدين الخارجي لمصر اليوم يبلغ عدة أضعاف هذا المبلغ، فيما يئن اقتصادها تحت وطأة سداد الديون. وإذا كان لمصر أن تلعب دورًا مركزيًّا في تسوية قضايا غزة، فإنَّ ذلك سيعود بالنفع على المنطقة إلى حد كبير. ولضمان دعم القاهرة من شبه المؤكد أنَّ حكومات الخليج والحكومات الغربية على حد سواء ستحتاج إلى التأكد من أنَّ مصر ترى فوائد مالية من القيام بذلك.
تواجه مصر أيضًا مخاوف أمنية مشروعة في غزة، فلأكثر من عقد من الزمان في شمال سيناء، قاتلت مصر تمردًا يتألف من الجهاديين والبدو وعصابات الجريمة المنظمة، وقد ساعدت عمليات التهريب في غزة في تمويل وتسليح المسلحين وهو ما تريد مصر وقفه، والأكثر من ذلك أنَّ مصر تخشى أن يؤدي تدفق اللاجئين من غزة إلى زعزعة استقرار جزء مضطرب فعلًا من سيناء، مما سيفرض مطالب على الوظائف والموارد ويزيد من تبني السكان المحليين لتوجهات دينية مسلحة.
على الرغم من أنَّ حكام مصر وجدوا في كثير من الأحيان قضية مشتركة مع إسرائيل بشأن القضايا الأمنية، فإنَّهم ليس لديهم أي نية للتحريض على إخلاء الأراضي الفلسطينية، فبعد مرور ثلاثة أرباع قرن لا يزال الشعب المصري متعاطفًا بشدة مع القضية الفلسطينية وسينظر إلى أي إعادة توطين للفلسطينيين على الأراضي المصرية باعتباره ترتيبًا دائمًا للتهجير، وسيخاف من تكرار تدفقات اللاجئين الفلسطينيين السابقة التي انتهت بالطريقة نفسها وسيراها خيانةً لحقوق الفلسطينيين في أرضهم.
ومع ذلك تقود الولايات المتحدة معظم الجهود الدبلوماسية بشأن غزة، أما واشنطن فإنَّها ترى حكومة السيسي شريكًا صعبًا، ولقد قررت الحكومة الأمريكية مؤخرًا حجب 85 مليون دولار من المساعدات العسكرية المخصصة لمصر بسبب مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان، وضغط بعض أعضاء الكونجرس من أجل خفض المساعدات بشكل أكبر.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، كشف ممثلو الادعاء عن لائحة اتهام صادمة تزعم أنَّ المخابرات المصرية جندت السيناتور الأمريكي بوب مينينديز رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، لاستخدام منصبه الرسمي لصالح الحكومة المصرية مقابل الحصول على رشاوى بمئات الآلاف من الدولارات، وبعبارة أخرى فإنَّ علاقات واشنطن مع القاهرة متوترة خاصة في الوقت الراهن، وقد اشتكت الحكومات العربية أيضًا أنَّ مصر شريك مرهق.
لدى الحكومة المصرية إحساس قوي بأهميتها ومصالحها الخاصة والتعاون المصري سيكون له ثمن، وعلى الرغم من أنَّ مؤتمر السلام الذي عقده السيسي بشأن الصراع بين إسرائيل وحماس في نهاية الأسبوع الماضي لم يسفر عن أي شيء جوهري، فإنَّ مصر ستكون لاعبًا حيويًّا مهمًا في حال بحثت جميع الأطراف عن مخرج لهذه الأزمة في الأسابيع والأشهر المقبلة.