أوفير وينتر- مور لينك- آدم شارون، معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي
مما يزيد من تفاقم حالة عدم اليقين بشأن مستقبل غزة في اليوم التالي للحرب، وجود فجوات كبيرة بين إسرائيل ومصر. فكيف يمكن سد هذه الفجوات؟
تظل الاستراتيجية التي تتبناها إسرائيل في التعامل مع غزة في مرحلة ما بعد الحرب غير واضحة المعالم، ولكن الدور المحوري الذي تلعبه مصر في أي تطور مستقبلي لا جدال فيه. وبالتالي فإن تعزيز التنسيق بين إسرائيل ومصر أمر حيوي. وينبغي على كلا البلدين وضع خطة مشتركة لخدمة مصالحهما السياسية والأمنية والاقتصادية، وجسر الرؤى المختلفة لمستقبل غزة، ودمج الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية في هذه الجهود. ويجب أن تركز الخطة المقترحة على تحييد قدرات حماس العسكرية فضلا عن قدرتها على الحكم؛ وتسهيل العودة التدريجية والمشروطة إلى قطاع غزة للسلطة الفلسطينية المُفعلة والملتزمة بالسلام؛ وتعزيز الرقابة المصرية على طريق فيلادلفيا والمعابر الحدودية المصرية عبر سيناء؛ وصياغة حزمة من الحوافز الاقتصادية لتعزيز المشاركة المصرية في غزة.
في خضم الحرب بين إسرائيل وحماس، تتبلور أفكار بين القادة المصريين، ووسائل الإعلام التي تديرها الدولة، ومعاهد البحوث بشأن مستقبل قطاع غزة في مرحلة ما بعد الصراع. ويشير تحليل هذا الخطاب إلى عدم موافقة مصر على العديد من سيناريوهات ما بعد الحرب التي تدرسها إسرائيل فيما يتعلق بالحكم الإداري والعسكري المستقبلي في القطاع، خاصة تلك التي لا ترتبط بحل شامل للقضية الفلسطينية. وتشمل السيناريوهات التي تمت مناقشتها في إسرائيل فرض نظام تدعمه قوات دولية من حلف الناتو والأمم المتحدة، أو نظام تدعمه قوات عربية أو حكومة تكنوقراط، وإعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة حتى من دون موافقة حماس.
إن مصر، في ظل الظروف الحالية، مترددة في تولي مسؤولية الأمن في غزة بعد الحرب، أو الإشراف على أي حكومة بعد الحرب، ولا تميل إلى المشاركة في أي قوة دولية تنتشر في القطاع. ويبدو أن مصر تعارض أيضاً فكرة ضرورة تحقيق إسرائيل كافة أهدافها في الحرب، والتي تشمل هزيمة حماس، والتهرب من المسؤولية عن حكم غزة، وتسليم العبء إلى اللاعبين الإقليميين والدوليين إلى أجل غير مسمى. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من موقف مصر الرافض لاستخدام غزة كقاعدة للأنشطة المسلحة، فإنها تستبعد أي وجود عسكري إسرائيلي مستمر في القطاع بعد الصراع، سواء في شكل إعادة احتلال كامل، أو منطقة أمنية، أو حواجز على طول الحدود.
إن إحجام مصر عن قبول الأفكار الإسرائيلية ترجع جذوره إلى الشكوك حول رغبة إسرائيل وقدرتها على إلحاق هزيمة حاسمة بحماس وإقامة واقع مستقر وآمن في القطاع على طول الحدود بين غزة ومصر. وهناك أيضاً مخاوف من أن يصبح نشر القوات الإسرائيلية أو الأجنبية في غزة ترتيباً طويل الأمد، إن لم يكن دائماً. وهناك مصدر آخر للقلق يتمثل في أن التوصل إلى حل لمشكلة غزة وحدها، بمعزل عن القضية الفلسطينية الأوسع، سوف يعتبر غير عادل، وبالتالي لن يحظى بالدعم الكافي بين الشعب الفلسطيني، ومن ثم سيفتقر إلى القدرة على الاستمرار في الأمد البعيد. وأخيراً، تخشى مصر من أن تبذل حماس قصارى جهدها لنزع الشرعية عن أي حكم فلسطيني بديل يستبعدها تماماً.
ووفقا لتقارير وسائل الإعلام، منذ بداية الحرب لم يكن هناك أي اتصال بين القادة الإسرائيليين والمصريين؛ ويضاف إلى هذا الانقطاع استياء مصري محتمل من اعتماد إسرائيل المتزايد على الوساطة القطرية. وقد أدت التصريحات المتكررة للمسؤولين الإسرائيليين وغيرهم إلى زيادة المخاوف المصرية بشأن خطط إسرائيل المزعومة لنقل الفلسطينيين قسراً من غزة إلى مصر. وهذا السيناريو – الذي لم ينكره رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حتى الآن – ينظر إليه النظام والشعب المصري على أنه محاولة لتصدير الأزمة إلى الأراضي المصرية، وشروع في تنفيذ “نكبة ثانية”، وحل القضية الفلسطينية على حساب مصر، مما يعرض الأمن والسيادة المصريين للخطر. وقد حذر رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي من “رد قوي” على أي محاولة إسرائيلية لطرد الفلسطينيين من غزة إلى مصر، حتى أنه ألمح إلى أن القاهرة ستعتبر ذلك انتهاكًا لمعاهدة السلام بين البلدين.
الرؤية المصرية لغزة
لمواجهة المقترحات الإسرائيلية بشأن مستقبل قطاع غزة، تعمل مصر على تطوير مقترح فلسطيني عربي إقليمي مضاد، يهدف إلى منع المحاولات المزعومة لفصل مشكلة غزة عن القضية الفلسطينية الأوسع، وحل جوانبها الأمنية والإنسانية فقط. وتشمل الخطوط العامة لخطة مصر لفترة ما بعد الحرب ما يلي:
- التأسيس الفوري لقيادة فلسطينية موحدة ومتفق عليها في قطاع غزة والضفة الغربية. وينبغي لهذه القيادة أن تكون تحت مظلة السلطة الفلسطينية، وألا تستبعد حماس بالكامل، وأن تتمتع بالدعم من الدول العربية.
- تقديم مساعدات مالية دولية للسلطة الفلسطينية لإعادة إعمار غزة، والتوصل إلى إجماع فلسطيني حول السلطة الفلسطينية، مما يسمح لها بحكم غزة بفعالية.
- استئناف عملية السلام لتوفير خارطة طريق ملموسة لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وفقا لقرارات الأمم المتحدة وحل الدولتين.
- العمل على إنشاء دولة فلسطينية منزوعة السلاح، مع ضمانات من قوى خارجية مثل الناتو، أو الأمم المتحدة، أو جيوش من دول عربية، أو قوات من الولايات المتحدة.
- تشكيل تحالف إقليمي قوي، يضم إسرائيل، يهدف إلى تعزيز السلام والاستقرار والتنمية والتعاون عبر الحدود.
في الوقت الحالي، يبدو أن مصر تهدف بعد الحرب إلى تكرار دورها الذي كانت تلعبه في غزة قبل 7 أكتوبر: وهو التوسط بين إسرائيل والفلسطينيين، وتسهيل الحوار بين حماس وفتح، والمساعدة في إعادة إعمار غزة، وإدارة المعابر الحدودية بين غزة وسيناء لأهميتها الإنسانية والاقتصادية والأمنية.
مصالح مشتركة
إلى جانب الخلافات الظاهرة بين إسرائيل ومصر بشأن واقع ما بعد الحرب، فإن البلدين يتقاسمان قائمة طويلة من المصالح المشتركة التي يمكن أن تضع الأساس لتفاهمات مستقبلية. ومن بينها الرغبة المتبادلة في إضعاف حماس وتجريد قطاع غزة من السلاح؛ وإقامة نظام مستقر في غزة لمنعها من أن تصبح مركزاً للمقاومة التي تستهدف إسرائيل ومصر؛ ووضع مصر باعتبارها الوسيط الرئيسي والفاعل الأساسي في صياغة الواقع الجديد في غزة؛ والحد من تأثير “محور المقاومة” في الشرق الأوسط؛ وتعزيز المبادرات الإقليمية الرامية إلى السلام والاستقرار والتنمية.
ومن بين الاهتمامات المشتركة الأخرى الرغبة في الاستفادة من ظروف ما بعد الحرب لتحسين الوضع الاقتصادي في مصر وتعزيز الاستقرار. فعلى مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية، فقد الجنيه المصري نحو نصف قيمته مقابل الدولار الأمريكي، ووصلت معدلات التضخم إلى مستوى قياسي، وأصبح أكثر من نصف السكان بالقرب من خط الفقر أو تحته. أحد العناصر الرئيسية في الأزمة الاقتصادية في مصر هو الديون المتزايدة. ووفقاً للأرقام الصادرة عن البنك المركزي المصري، يبلغ حجم الدين الخارجي للبلاد 165 مليار دولار – نحو 95% من الناتج المحلي الإجمالي – أي أكثر من ثلاثة أضعاف نظيره في عام 2010، قبل الربيع العربي.
تهدد الحرب في قطاع غزة بتفاقم الأزمة الاقتصادية في مصر، مما يضاف إلى الصدمات الخارجية الأخيرة الناتجة عن جائحة كوفيد-19 والحرب الروسية في أوكرانيا. القطاعات الأكثر عرضة للتأثر بشدة هي الطاقة والسياحة والنقل الدولي عبر قناة السويس. وفي الأسابيع الأولى من الحرب، انخفضت صادرات إسرائيل من الغاز الطبيعي إلى مصر بشكل حاد. وتم استئناف تدفق الغاز في وقت لاحق، وعاد منذ ذلك الحين إلى مستواه قبل الحرب. كما شهدت السياحة، وخاصة في سيناء، تراجعًا كبيرًا، حيث انخفضت بنسبة كبيرة أثناء موسم الذروة للسياح الأوروبيين. وأخيرا، تشكل الحرب تهديدا لحركة النقل البحري الدولي عبر قناة السويس، التي تعد مصدرا رئيسيا للعملة الأجنبية لمصر، بسبب استهداف الحوثيين للسفن المرتبطة بإسرائيل.
التوصيات
لتعزيز التعاون بين إسرائيل ومصر بشأن مستقبل قطاع غزة، يحتاج كلا البلدين إلى تطوير خطة استراتيجية منسقة تعمل على سد الفجوات بينهما. وستتطلب هذه الخطة دعماً من الحلفاء الإقليميين والدوليين. ويمكن لعدة خطوات مواءمة مواقفهم بشكل أوثق.
أولاً، يتعين على إسرائيل أن تثبت لمصر التزامها وقدرتها على تحييد قدرات حماس الحكومية والعسكرية بشكل فعال. وهذا من شأنه أن يضمن عدم قيام حماس بعرقلة إنشاء واقع جديد في قطاع غزة، وبالتالي سيسهل قبول القاهرة باستبعاد حماس من الترتيبات المستقبلية.
ثانياً، يتعين على إسرائيل أن تنظر بشكل إيجابي إلى توقعات مصر بأن تتولى السلطة الفلسطينية السيطرة على قطاع غزة بعد الحرب. ورغم أن العودة الفورية وغير المشروطة للسلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة ليست ممكنة، فمن الأهمية بمكان وضع إطار يوضح تفاصيل عودتها إلى العمل وفق جدول زمني محدد، مع ضمانات موثوقة بأن أي ترتيبات للحكم المؤقت لن تصبح دائمة.
ثالثاً، يتعين على إسرائيل أن تسعى جاهدة إلى خلق أفق سياسي قادر على إطلاق عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية عندما تسمح الظروف بذلك. وأخيرًا، يجب على رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يتنصل بشكل لا لبس فيه وأن ينأى بإسرائيل عن أي خطط متداولة عن إجبار سكان غزة على الخروج من القطاع، مع توضيح أن مثل هذه الفكرة ليست قيد النظر.
أما بالنسبة لمصر فإن دورها في مرحلة ما بعد الحرب لابد أن يتضمن اتخاذ إجراءات لدعم إحياء عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، وضمان وضع المصالح الإسرائيلية في الاعتبار.
أولاً، ينبغي على مصر أن تشجع السلطة الفلسطينية على قبول تجريد قطاع غزة من السلاح واتخاذ تدابير لبناء الثقة مع إسرائيل. ويشمل ذلك وقف التحريض في وسائل الإعلام، وإصلاح المناهج المدرسية، ووقف دفع رواتب الشهداء والأسرى لأسرهم، وبحيث وتتوافق هذه الإجراءات مع هدف إدارة بايدن المتمثل في إنشاء “سلطة فلسطينية فاعلة”.
ثانياً، إذا كانت مصر تعارض السماح بحرية العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، فيتعين عليها أن تقترح استراتيجيات بديلة لحماية الأمن القومي الإسرائيلي والمساعدة في تنفيذها. ويمكنها أن تقود أو تنضم إلى قوة عمل عربية مؤقتة مكلفة بمنع تهريب الأسلحة على طول طريق فيلادلفيا وعبر المعابر الحدودية بين مصر وغزة. وبالإضافة إلى ذلك، يتعين على مصر أن تلتزم بدعم الملحق العسكري لمعاهدة السلام الإسرائيلية المصرية.
يمكن للجهات الفاعلة الإقليمية والدولية تقديم المزيد من الحوافز لمصر للعب دور بناء في غزة ما بعد الحرب، وذلك في المقام الأول من خلال تقديم حوافز مالية، مثل الاستثمار الأجنبي والقروض والمنح. وفي حين أن هذه الحوافز لا تهدف إلى تغيير موقف القاهرة الأساسي بشأن مستقبل غزة، والذي يتماشى مع مصالحها الأمنية الوطنية، إلا أنها يمكن أن تعزز رغبة مصر في المشاركة بشكل أعمق اقتصاديًا وعسكريًا في القطاع، وإيلاء اهتمام أكبر لمشاغل إسرائيل. وتشمل الجهات الفاعلة الرئيسية في هذا المسعى دول الخليج والولايات المتحدة وأعضاء الاتحاد الأوروبي، فجميعهم يتقاسمون مصلحة مشتركة في وقف تصعيد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتعزيز التنمية والاستقرار والأمن في الشرق الأوسط.
يمكن لحزمة الحوافز المقدمة لمصر أن تستمد بعض الإلهام من خطة ترامب للسلام لعام 2020. فقد تضمنت هذه الخطة استثمارات في البنية التحتية للطاقة والسياحة والمياه في سيناء، وبعضها يمكن أن يفيد غزة أيضًا. وبالإضافة إلى ذلك، من الممكن النظر في عنصر الإعفاء من الديون، فيما يشبه المساعدة التي تلقتها مصر بعد حرب الخليج لدعمها التحالف الذي قادته الولايات المتحدة. فالمقرضون الرئيسيون لمصر هم صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ودول الخليج، وأعضاء نادي باريس، والصين.
إن تقديم هذه الحوافز، إلى جانب الإصلاحات الاقتصادية الأساسية في الداخل ــ والتي ستكون مشروطة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي ــ من شأنه أن يحقق فوائد اقتصادية وسياسية كبيرة ليس فقط لمصر بل وأيضاً لإسرائيل والفلسطينيين والمنطقة ككل.