إنَّ امتلاك الحس السياسي أمر مهم للغاية للمنخرطين في العمل العام، وتقدير ما الذي ينبغي قوله وبأي صيغة أمر أكثر أهمية، وفَهم دَلالات ما يقوله المنافسون على الوجه الصحيح أمر ثالث ضروري. وفي كتاب “العالم كما هو: ذكريات في البيت الأبيض بعهد أوباما” الصادر عام 2018 يقدم “بين رودس” إطلالة مفيدة عن كواليس صياغة خطاب الرئيس الأمريكي السابق أوباما في جامعة القاهرة عام 2009. وقد عمل رودس كاتبًا لخطابات أوباما خلال حملته الرئاسية الأولى، ثُمّ شغل وظيفتين رسميتين في الوقت ذاته في عهد أوباما؛ الأولى نائب مدير كتابة الخُطَب في البيت الأبيض، والثانية مدير أول لكتابة الخطابات في مجلس الأمن القومي، ولاحقًا عمل رودس نائبًا لمستشار الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية، حيث تولى المسئولية عن إعداد أوباما لمؤتمراته ومقابلاته الصحفية، والتنسيق بين المتحدثين باسم الخارجية والدفاع والوكالات الأخرى.
أصل فكرة الخطاب، والاختيار بين جاكرتا والقاهرة
يشير رودس إلى أنَّ فكرة مخاطبة العالم الإسلامي خلال أول مائة يوم من تولي أوباما لمنصبه الرئاسي استحوذت على تفكير الرئيس الأمريكي منذ أنْ طرحها في خطاب خلال حملته الانتخابية عام 2007م بهدف تغيير صورة بلاده في الخارج، وذلك من منظور يرى أنّ لدى العديد من المسلمين أماني كبيرة من رئيس أمريكي يُدْعى باراك حسين أوباما ولديه أقارب مسلمين. ويوضح رودس أنَّه بعد تنصيب أوباما رئيسًا، دار بعض الجدل حول ما إذا كان ينبغي إلقاء الخطاب من الأصل أم لا، باعتبار أنَّه يوجد ما يمكن القيام به دون أنْ يسافر أوباما إلى مكان ما للتحدث إلى أتباع دين واسع الانتشار عالميًّا وينظر إليه معظم الأمريكيين برَيبَة.
لكن الترقب حول الخطاب من المسلمين ووسائل الإعلام، رفع تكلفة الابتعاد عن الفكرة، وانتهى الأمر بمستشاري أوباما إلى تقديم خيارين حول المكان المقترح لإلقاء الخطاب؛ الأول هو العاصمة الإندونيسية جاكرتا، فهي المكان الذي عاش فيه أوباما طفلًا مما سيتيح له الحديث عن التسامح في الإسلام، والثاني هو القاهرة التي أصبحت حسب تعبير رودس (مركز منطقة تصدر الكثير من التطرف وعدم الاستقرار في العقود الأخيرة).
ويوضح رودس أنَّ جاكرتا هي الخيار الأكثر أمانًا بعيدًا عن الحروب والصراعات والحكام المستبدين في الشرق الأوسط، لكنه يقول أنَّ هذا هو بالضبط سبب اختيار أوباما للقاهرة، حيث قال لمستشاريه (لنكن صادقين المشكلات موجودة في العالم العربي وليست في إندونيسيا).
مضمون الخطاب
بحسب رودس، ركزت الكثير من النصائح الخاصة بمضمون الخطاب على تناول الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة حيث جعلت “الحرب العالمية على الإرهاب” أغلب المسلمين يعتقدون أنَّ واشنطن لا تهتم سوى بمكافحة الإرهاب، وأنّها تعد المسلمين كافة إرهابيين محتملين. ويوضح رودس أنَّ أحد زملائه المسلمين أخبره أن عبارة “الإسلام الراديكالي” يراها العديد من المسلمين توصيفًا للإسلام نفسه وليس لفصيل بداخله. فيما أظهر استطلاع للرأي أنَّ ما يهتم به معظم المسلمين في الواقع هو الفقر والفساد والبطالة، وإذا جرى سؤالهم عما يريدون العمل مع أمريكا عليه؟ فإنَّ الإجابات ستركز على التعليم وريادة الأعمال والعلوم والتكنولوجيا، وإذا جرى سؤالهم ما الذي تركز عليه سياسة الولايات المتحدة؟ سيجيبون النفط وإسرائيل وإضعاف العالم الإسلامي.
يقول رودس أنَّه ناقش مضامين الخطاب المقترحة مع أوباما، وتطرق إلى قضية الديمقراطية، وأشار إلى أنَّ التحدي لم يكن مجرد حساسية معالجة القضية في بلد يحكمه نظام قمعي، فالحقيقة أنَّه إذا كانت هناك انتخابات حقيقية في مصر فمن المحتمل أنْ يفوزَ بها الإخوان المسلمون، بينما تميل أمريكا إلى التعبير عن دعمها لنشطاء ديمقراطيين سيحصلون على نسبة صغيرة فقط من الأصوات مما يجعلها أقل مصداقية. فقال له أوباما (يجب على الولايات المتحدة أنْ تُرَحِبَ بشرعية جميع الحركات السياسية، حتى تلك التي نختلف معها، لكننا سنحكم أيضًا على أي حركة سياسية من خلال ما إذا كانت تختار التصرف والحكم بطريقة متسقة مع المبادئ الديمقراطية).
وفيما يخص الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فقد نصح عدد من المستشارين بعدم التركيز على تبني أوباما لخطة سلام بهدف تجنب التأكيد على صحة الرأي القائل بأنّ جميع المشكلات في الشرق الأوسط متجذرة في الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ورأوا أنّه من الصعب -إنْ لم يكن من المستحيل- بالنسبة لحكومة يسار الوسط في الولايات المتحدة التي يمثلها أوباما أنْ تصنع السلام مع حكومة يمين الوسط في إسرائيل التي يمثلها نتنياهو. وبدلًا من طرح خُطة سلام، وافق أوباما على توصية تدعو إلى وقف بناء المستوطنات الإسرائيلية.
مع اقتراب موعد الخطاب، ازدادت حدة الضغوط على إدارة أوباما، وطُلب من رودس الجلوس مع “لي روزنبرغ” أحد قادة إيباك وأحد جامعي التبرعات لحملة أوباما الرئاسية. حيث أراد روزنبرغ التأكد من أنَّ أوباما لن يعبر عن دعمه للفلسطينيين، ولن يشير إلى أنَّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو أصل المشكلات في الشرق الأوسط، كما ناشد روزنبرغ رودس أنْ يشجعَ أوباما على دعوة العالم الإسلامي إلى الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. ويضيف رودس كان هذا موقفًا رسميًّا لم تتخذه الولايات المتحدة بعد، وسيشير إلى منع ملايين اللاجئين الفلسطينيين من حق العودة كجزء من اتفاقية سلام مفترضة مستقبلًا. ومن ثَمّ أكد لروزنبرغ أنَّ الخطاب لن يفتح أرضية جديدة في دعم واشنطن للفلسطينيين، لكنه لن يصور الأمر كأن الفلسطينيين هم الطرف الأقوى في الصراع خلافًا للحقيقة.
فحص مسبق للخطاب
توضح التفاصيل التي يذكرها رودس أنَّ مِسْوَدَة الخطاب الرئاسي خضعت لنقاشات عميقة من طرف العديد من المؤسسات والوزارات والمسئولين الأمريكيين، فضلًا عن الرئيس ذاته، كي يعبر الخطاب بدقة عن الموقف الأمريكي من القضايا محل التناول. ولا يفوت رودس أنْ يشيرَ إلى وجود تقليد يختص بمراجعة مجتمع الاستخبارات لمِسْوَدات الخطابات الرئاسية، بعد أنْ بالغَ جورج دبليو بوش في الحديث عن جهود الرئيس العراقي صدام حسين للحصول على مواد نووية في خطابه عن حالة الاتحاد عام 2003م.
ويوضح رودس أنَّ نِقاشًا دار داخل إدارة أوباما، حول ما إذا كان ينبغي لأوباما السفر إلى إسرائيل بعد ذَهابه إلى القاهرة. لكن نظرًا للقلق من عدم الرغبة في رؤية الخطاب من منظور الصراع العربي الإسرائيلي فقط، فقد تقرر عدم سفره إلى إسرائيل. ويضيف رودس أنَّ من المفارقات، تَعَرُض الإدارة الأمريكية لانتقادات من أنصار نتنياهو على مدى سنوات بسبب هذا القرار رغم أنَّها اتخذته استجابة للمخاوف الإسرائيلية، وبحسب تعبيرات رودس، فقد صُور أوباما على أنَّه غير مؤيدٍ لإسرائيل بالشكل الكافي، وتجاهلوا حقيقة أنَّه لم يفعل شيئًا ملموسًا للفلسطينيين.
إلقاء الخطاب
يروي رودس تفاصيل إلقاء الخطاب قائلًا: بمجرد أنْ افتتحَ أوباما الخطاب بقوله “السلام عليكم”، انطلق الجمهور في هتافات. وبحسب رودس، فقد اختارت واشنطن حشدًا من النشطاء العَلمانيين والمثقفين والقادة السياسيين ورجال الدين ونشطاء حقوق المرأة وأعضاء من جماعة الإخوان المسلمين. وهتف كل منهم لأجزاء الخطاب التي أعجبتهم، فرجال الدين صفقوا لدفاع أوباما عن حق المرأة في ارتداء الحجاب في الولايات المتحدة، وهتف الناشطون “نحبك” عندما تحدث عن الديمقراطية، وهتفت النساء عندما تحدث عن مجتمع بحاجة إلى إطلاق العنان لإمكانات فتياته. وقد ركز أوباما في خطابه على أنَّ الدول تنجح عندما تتسامح مع المعتقدات الدينية المختلفة؛ وأنَّ الحكومات التي تمنح صوتًا لشعوبها وتحترم سيادة القانون تصبح أكثر استقرارًا وإرضاءً؛ وأنَّ البلدان التي تُمكن المرأة تصبح أكثر نجاحًا.
رسالة خفية موجّهة لإيران في الخطاب
يوضح رودس أنَّ إدارة أوباما وظفت خطاب جامعة القاهرة لإرسال رسالة إلى إيران قائلًا (نظرًا للمكانة البارزة للخطاب في القاهرة، فقد كتب أوباما رسالة سرية إلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية تشير إلى انفتاحه على الحوار حول البرنامج النووي. ردًّا على ذلك، تلقينا رسالة سرية من المرشد تتضمن قائمة طويلة بالجرائم التي يقول أنَّ الولايات المتحدة ارتكبتها، ولا سيما دورها في الانقلاب الذي أطاح بالحكومة الإيرانية في الخمسينيات وإعادة حكم الشاه القمعي، وأشارت الرسالة إلى أنَّه يجب التعامل مع العلاقات بين الدول بشجاعة واستقامة وتصميم.
وقد حاولنا في خطاب أوباما بالقاهرة رسم نغمة جديدة للحوار فخلال الحديث عن الحرب الباردة، قال أوباما “لعبت الولايات المتحدة دورًا في الإطاحة بحكومة إيرانية منتخبة ديمقراطيًّا، ومنذ الثورة الإسلامية لعبت إيران دورًا في عمليات احتجاز الرهائن وأعمال العنف ضد القوات والمدنيين الأمريكيين، هذا التاريخ معروف، وبدلًا من البقاء محاصرين في الماضي، أوضحت لقادة إيران وشعبها أنَّ بلدي مستعد للمضي قدمًا”.
ولإرسال رسالة إلى أولئك الذين يراقبون الخطاب بعناية في إيران، أدخلنا كلمات المرشد الأعلى في الخطاب حيث قال أوباما: “سيكون من الصعب التغلب على عقود من انعدام الثقة، لكننا سنمضي بشجاعة واستقامة وتصميم”.
إنَّ التفاصيل التي ذكرها رودس توضح أنَّ التفاصيل المتعلقة بالخطاب الرئاسي الأمريكي خضعت للدراسة والتمحيص من جهة المضمون ومكان الإلقاء والتوقيت، بحيث يخدم الأهداف الأمريكية ولا يرسل رسائل تُناقِض المقصود منه أو تُشوش عليه، وهي نقطة يمكن أنْ يستفيد منها المنخرطون في العمل السياسي والعمل العام عمومًا، وبالأخص في ظل انتشار نماذج غير منتبهة لأهمية الخطاب السياسي وخطورة الكلمة التي قال عنها النبي _صلى الله عليه وسلم_ «إنَّ مِنْ الكلامِ لَسِحْرًا»، وذلك بحُجج متنوعة، مثل ألَّا أحد يركزَ مع مضامين الكلام أو أنْ الكلام ينسي بعضه بعضًا أو أنْ الكلام يعبرَ عن شخص المتحدث لا عن الجهة التي يمثلها، إلى غير ذلك من التبريرات التي تعكس حالة من عدم النضج السياسي، فيتسبب الخطاب في تداعيات عكس المراد منه.