ستيفن والت : مجلة السياسة الخارجية “فورين بوليسي”
يمكن أن تبدو السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات الأخيرة كأنها سلسلة من المغامرات الفاشلة، مثل الحروب الفاشلة في العراق وأفغانستان، وجهود السلام الفاشلة في الشرق الأوسط، وتزايد القدرات النووية لدى بعض القوى المنافسة، وعدد من الأمور المحرجة الأخرى. وتثير الانتكاسة الأخيرة عبر مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في الأردن في هجوم بطائرة دون طيار شنته ميليشيا موالية لإيران، تساؤلات جديدة حول ما تفعله القوات الأمريكية في هذه المناطق المضطربة، وما إذا كان من المنطقي إبقاؤها هناك.
من المغري إلقاء اللوم في هذه الإخفاقات المتكررة على القيادة الأمريكية غير الكفؤة في كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري، أو على استراتيجية كبرى اختيرت بشكل سيئ -لقد كتبت الكثير من هذا النوع من الانتقادات بنفسي- لكن جهود الولايات المتحدة لتشكيل السياسة العالمية تواجه مشكلة هيكلية أعمق نغفل عنها أحيانًا.
تفشل المبادرات الأمريكية في بعض الأحيان؛ ليس لأنَّ استراتيجية الولايات المتحدة سيئة بالضرورة أو لأنَّ المسؤولين الحكوميين أقل مهارة مما قد يرغب المرء، لكن لأنَّ الخصوم لديهم مصلحة أكبر في تحقيق النجاح، فهم على استعداد لتقديم تضحيات أكبر مما نحن عليه لتحقيق مرادهم. وفي هذه المواقف، قد يتم التغلب على قوة أمريكا المتفوقة من خلال عزيمة الخصم المتفوقة.
تنشأ هذه المشكلة في جزء كبير منها لأنَّ الولايات المتحدة هي القوة العظمى الأكثر تمتعًا بالأمان في التاريخ الحديث. ليس لديها منافسين أقوياء في أي مكان بالقرب من أراضيها؛ وتتمتع باقتصاد كبير ومتطور ومتنوع؛ تمتلك آلاف الأسلحة النووية؛ وتتمتع بجغرافية مواتية للغاية. وقد لا يستمر مستواها الحالي من الأمن والرخاء إلى الأبد، لكن لا توجد دولة أخرى -وبالتأكيد أي قوة كبرى- تتمتع اليوم بنفس الحظوظ.
والنتيجة هي مفارقة: يمكن للولايات المتحدة أن تتجول حول العالم وتتدخل في الكثير من المشكلات البعيدة للعدم وجود داعي للقلق بشأن الدفاع عن أراضيها ضد أي هجوم مسلح. لكن هذه الظروف المواتية تعني أيضًا أنَّ ما يحدث في هذه المناطق البعيدة نادرًا ما يكون حاسمًا لبقاء الولايات المتحدة، وقد يكون مرتبطًا بشكل فضفاض بازدهارها على المدى الطويل. وهذا يعني، من بين أمور أخرى، أنَّ كل حرب خارجية كبرى تخوضها الولايات المتحدة تقريبًا هي، إلى حد ما، حرب اختيارية.
قد لا يكون أمام الدول التي تواجه جهة غازية معادية أو وضعًا أمنيًّا سريع التدهور خيارًا سوى القتال من أجل الاحتفاظ باستقلالها، لكن الولايات المتحدة لم تواجه هذه المشكلات منذ القرن التاسع عشر. حتى دخول الولايات المتحدة في الحربين العالميتين ربما لم يكن ضروريًّا تمامًا: على الرغم من أنَّني أعتقد أنَّ التدخل في كل من هذه الصراعات كان هو القرار الصحيح لأسباب استراتيجية وأخلاقية، فإنَّ تدخل الولايات المتحدة كان محل نقاش ساخن في ذلك الوقت لأسباب مفهومة.
منذ ذلك الحين، وجدت الولايات المتحدة نفسها في كثير من الأحيان تقاتل خصومًا بعيدًا عن شواطئها أو بالقرب من أراضي خصومها أو على أرضهم. وتدخلت الصين الأضعف إلى حد كبير في الحرب الكورية لأنَّ القوات الأمريكية اقتربت من الحدود الصينية، وكان ماو تسي تونج على استعداد للتضحية بأكثر من مائة ألف جندي لمنع الولايات المتحدة وحلفائها من السيطرة على شبه الجزيرة الكورية بأكملها.
اهتمت الولايات المتحدة بفيتنام بما يكفي لإرسال أكثر من مليوني جندي إلى هناك، وخسرت أكثر من 58 ألف جندي منهم، لكن الفيتناميين الشماليين اهتموا أكثر منا، وتحملوا خسائر أخطر بكثير، وانتصروا في نهاية المطاف.
كان الأمريكيون على أتم استعداد لملاحقة تنظيم القاعدة في أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر، بل وكانوا على استعداد للبقاء لسنوات في محاولة لمنع طالبان من استعادة السلطة. لكن في النهاية، اهتمت طالبان بمصير أفغانستان أكثر منا. وتتجلى ظروف مماثلة أيضًا في أوكرانيا، فقد أبدت الولايات المتحدة وغيرها من الدول استعدادًا لإرسال الأموال والأسلحة واتخاذ خطوات أخرى مكلفة لمساعدة كييف، لكن قادة روسيا كانوا على استعداد لإرسال جنود للقتال والموت هناك، بينما لا يرغب داعمو أوكرانيا الأجانب في ذلك. ليس لأنَّ الزعماء الغربيين جبناء، بل لأنَّ هذه قضية أكبر بالنسبة لموسكو وأوكرانيا مما هي عليه بالنسبة لبقية العالم. وتكمن نفس المشكلة غير المريحة في المناقشات حول تايوان: بغض النظر عن عدد المرات التي يؤكد فيها المسؤولون الأمريكيون وخبراء الدفاع أنَّ الحكم الذاتي التايواني يمثل مصلحة حيوية للولايات المتحدة، فمن الصعب الوثوق في مدى اهتمامهم بهذه القضية أكثر من اهتمام بكين.
يرجى ملاحظة أن كون الخصوم لديهم قدر أكبر من المشاركة في اللعبة، وبالتالي تصميم أكبر، لا يعني أنَّه لا ينبغي للولايات المتحدة أن تأخذ على عاتقها التزامات عالمية أو تتدخل في صراعات بعيدة. وقد لا يحتاج المرء إلى عزم مماثل لردع الخصم عن اتخاذ بعض الإجراءات المحفوفة بالمخاطر، على سبيل المثال، لأنَّه لا يستطيع التأكد من أنَّه لن يستجيب وسيفرض تكاليف لا نريد تحملها. ولا يعني هذا أيضًا أنَّ الخصوم الأكثر تصميمًا سيفوزون بالضرورة، كما أظهرت المواجهات مع العراق في عام 1991، وصربيا في عام 1999، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق. لكن حقيقة أنَّ الولايات المتحدة تعمل عادة بعيدًا عن الوطن، وأنَّ خصومها يميلون بالتالي إلى أن يكون لديهم تصميم أكبر، هي سمة متكررة في البيئة الاستراتيجية الأوسع.
من الناحية العملية، تعاملت الولايات المتحدة مع هذه المشكلة بطريقتين. يتلخص النهج الأول في ربط سمعة أميركا فيما يتعلق بالعزيمة والمصداقية بنتيجة صراع معين. وحتى لو كانت المخاطر أقل أهمية، فسوف يصر المسؤولون على ضرورة النصر من أجل ردع التحديات المستقبلية في مكان آخر.
في الواقع، تحاول هذه الاستراتيجية إقناع المعارضين بأنَّ مصلحة الولايات المتحدة في قضية معينة أكبر مما تبدو في البداية، لأنَّها مرتبطة بكل التزام أو بمصلحة أخرى ربما تكون الولايات المتحدة قد قدمتها في الماضي.
وكما رأينا في فيتنام، والعراق، وأفغانستان، فإنَّ هذا النهج من الممكن أن يساعد في الحفاظ على الدعم الشعبي للحروب التي لا تسير على ما يرام، التي يبدو أنَّ فوائدها تفوق تكاليفها. لكنها قد لا تقنع المعارضين بأنَّ واشنطن ستستمر على هذا النهج إلى الأبد، خاصة إذا كان الخصوم حازمين للغاية وإذا بدأ حلفاء الولايات المتحدة الآخرون في الشكوى من أنَّ واشنطن تهدر الموارد التي يمكن تخصيصها لحمايتهم. علاوة على ذلك، كلما زادت الالتزامات التي تتعهد بها الدولة، أصبح من الصعب الدفاع عنها في وقت واحد، وأصبح كل منها أقل مصداقية. وسوف يكتشف المنافسون ذلك في النهاية ويبحثون عن فرص للاستفادة منها. في حد ذاته، فإنَّ استدعاء الاختلافات في نظرية الدومينو لن يكون استراتيجية فعالة.
الحل الثاني هو الحفاظ على درجة كافية من التفوق العسكري والاقتصادي للسماح للولايات المتحدة بهزيمة خصومها بتكلفة قليلة أو دون تكلفة على الإطلاق. قد يهتم الخصم أكثر بالقضايا المطروحة، لكن قد لا يهم إذا كان عليه أن يدفع ثمنًا باهظًا لتحقيق أهدافه بينما نحن لا ندفع ذلك. تحدى صدام حسين الولايات المتحدة في عام 1990 لأنَّه كان يعتقد أنَّ المجتمع الأمريكي لن يقبل خسارة 10.000 رجل في معركة واحدة، لكن قادة الولايات المتحدة علموا أنَّهم لن يخسروا أي شيء يقترب من هذا العدد، وأظهرت عاصفة الصحراء أنَّهم على حق.
والواقع أنَّ المرء قد يزعم أنَّ هذا المبدأ يدعم النهج الأمريكي بالكامل في التعامل مع الدفاع والسياسة الخارجية: فهي تنفق الكثير من المال للحصول على القدرات القادرة على هزيمة العدو بتكاليف منخفضة نسبيًّا؛ وتخصيص الكثير من الموارد لمختلف تدابير حماية القوة، وتستخدم سيطرتها على العقد الرئيسية للنظام المالي العالمي لفرض عقوبات أحادية الجانب على الآخرين؛ وهي تعتمد على القوات البرية المحلية -على سبيل المثال، القوات الخاصة العراقية في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، والأوكرانيين في مواجهة روسيا اليوم- عندما تستطيع ذلك.
والمشكلة هي أنَّه من الصعب الحفاظ على هامش ميزة بهذا الحجم، وخاصة الآن بعد أن انتهت لحظة القطب الواحد وعودة القوى الكبرى المتنافسة إلى الظهور. علاوة على ذلك، تتراجع مزايانا العسكرية عند مواجهة حركات التمرد وغيرها من أشكال المقاومة المحلية. كما أنَّ التطورات التكنولوجية مثل الطائرات دون طيار، وتقنيات المراقبة، وانتشار القدرات الصاروخية، وما إلى ذلك، يمنح الجهات الفاعلة الضعيفة نسبيًّا -مثل الحوثيين في اليمن- القدرة على فرض تكاليف على الخصوم الذين تكون قدراتهم الإجمالية أقوى بكثير.
قد لا تتمكن الجهات الفاعلة المحلية الضعيفة، لكن ذات الدوافع العالية -مثل الميليشيا التي نفذت هجوم الطائرات دون طيار في الأردن- من إجبار الولايات المتحدة على فعل ما تريده، لكنها يمكن أن تجعل من الصعب على الولايات المتحدة التصرف مع الإفلات من العقاب الذي تمتعت به قبل عقدين من الزمن.
إذا كان العالم يدخل فترة من الهيمنة العسكرية الدفاعية، وإذا كانت عزيمة معظم الدول أكبر في محيطها المباشر، فإنَّ قدرة أي دولة على ممارسة نفوذ عالمي واسع بلا منازع سوف تتراجع. وبوسع المرء أن يتخيل نظامًا ناشئًا متعدد الأقطاب تمارس فيه ست قوى كبرى أو أكثر درجة من النفوذ على مقربة من الوطن، لكن نفوذها يتراجع بسرعة كلما ابتعدت عن أراضيها. سوف يتراجع النفوذ جزئيًّا بسبب انخفاض القدرة على إظهار القوة مع بعد المسافة، وأيضًا لأنَّ ميزان العزيمة يتحول نحو الآخرين كلما غامر المرء بالذهاب إلى أبعد من ذلك.
في مثل هذا العالم، سيتعين على الولايات المتحدة أن تختار معاركها بعناية أكبر مما كانت عليه في الماضي، لأنَّ تكاليف الذهاب إلى كل مكان والقيام بكل شيء سوف ترتفع، وسيكون المنافسون البعيدون أكثر استعدادًا لدفع هذه التكاليف في المناطق الأقرب من العالم لهم منا.
والخبر السار هو أنَّ هذا قد يكون أيضًا عالمًا يبدأ فيه بعض حلفاء أمريكا الحاليين في بذل المزيد من الجهد لحماية أنفسهم ومحيطهم، لأنَّ من مصلحتهم أن يفعلوا ذلك. سيكون عالمًا مختلفًا عن العالم الذي عشنا فيه طيلة 75 عامًا أو نحو ذلك، لكن لا ينبغي للأمريكيين أن يشعروا بالقلق الشديد منه. وكما قلت من قبل، قد يكون ذلك في صالحهم.