هناك العديد من الأسئلة التي تطرحها تجربة (طالبان) في صراعها الطويل الذي خاضته ضد الغزو الأمريكي وحلف الناتو ، هدف هذه الأسئلة هو عمل مقارنات وتقييم نتائج تجارب مختلفة ، فتلك المقارنات حاضرة في أذهان الشباب بمنطقة الشرق الأوسط، حيث شهدت عدة دول عربية ثورات وانتفاضات شعبية واسعة، بعض تلك الثورات انتهجت مسارَ التظاهر كركيزة رئيسية في مواجهة النظام مع ممارسة عنف محدود كما حدث في مصر، والبعض الآخر انتهج مسارًا مسلحا بعد قمع الأنظمة بقوة للتظاهرات كما حدث في سوريا وليبيا، وبين هذا المسار وذاك، أخذت تطلعات التغيير عند الشباب تتراجع للخلف وسط إحباط كبير من نجاح أي تغيير في المنطقة.
عملت الدول الراعية للانقلابات العسكرية والثورات المضادة بتنسيق كبير وواسع مع المكونات العسكرية والسياسية للأنظمة التي حدثت ثورات ضدها ،وهو ما أعطى مظلة إقليمية ودولية وشرعية لممارسة هذا الدور في مواجهة الثورات التي رأتها كمصدر تهديد لاستقرار أنظمتها.
نجاح (طالبان) في بسط سيطرتها على أفغانستان ولد تساؤلات عن مستقبل التيارات الإسلامية السياسية السنية خاصة في الدول التي شهدت انتكاسات وانقلابات عسكرية ودستورية كما حدث في مصر سنة 2013 وتونس مؤخرا، وسابقا سنة1992 في الجزائر. فالهزيمة الكبيرة التي تلقتها أمريكا ودول الناتو وحكومة أشرف غني في أفغانستان تمثل نقطة تحول للتيار الإسلامي والحركات الإسلامية السنية المختلفة في المنطقة، حيث أعطى بارقة أمل على إمكانية حدوث تغيير بمنأى عن أمريكا والغرب. بجانب ذلك مثل خروج ترامب من السلطة وصعود بايدن نقطة ارتباك في المنطقة صاحَبها عدة تغيرات إقليمية في عدة ملفات، حيث يمكن أن تمارس أمريكا والديموقراطيون ضغوطًا على السعودية والإمارات ومصر، ما قد يمثل فرصة لتيار التغيير أن يلتقط أنفاسه من جديد.
أول تلك الإشارات والأسئلة المطروحة تدور حول “الانتخابات”، فهناك عزوف وقناعة عند قطاع لا بأس به من الشباب عموما والإسلاميين خصوصا بجدوى الانتخابات كمسار للتغيير الثوري أو الإصلاحي، فالجميع شاهد كيف شارك وتعاطى المجتمع الدولي خاصة أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي مع الانقلابات في المنطقة بداية من فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر مطلع التسعينات والانقلاب عليها لاحقا، وفوز حركة حماس في انتخابات 2006 وعدم الاعتراف بها، وفوز الإخوان المسلمين في مصر (حزب الحرية والعدالة) في جميع الاستحقاقات الانتخابية بعد ثورة 25 يناير وصولًا إلى الانقلاب العسكري في يوليو 2013، وكذلك ما حدث مؤخرا ضد حركة النهضة في تونس.
فمنذ سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924 أخذت عدة حركات وجماعات تتشكل وتسعى لإقامة نظام حكم إسلامي يتمثل في (الخلافة) سواء كانت تمتلك رؤية لذلك أو تسعى لتطبيقه دون وجود رؤية عملية وفهم جيد للواقع، وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين التي تبنت مسارات دستورية وقانونية ونيابية ونقابية كأدوات للتغيير. لكن تعاطي النظام الدولي مع تلك الانقلابات رسخ قناعة بأن مسارات التغيير والإصلاح عبر الطرق القانونية والدستورية تنتهي بالفشل، دون تحقيق أي نجاح، بل يتبعها انتهاكات كبيرة، وبالرغم من هزيمة حزب العدالة والتنمية في المغرب مؤخرا بسبب سياساته المتماهية مع رؤية الملك فيما يتعلق بالتطبيع مع الكيان الصهيوني أو اعتبارات داخلية عند المجتمع المغربي يصعب التعرض لها في هذا المقال إلا أنه يعد نموذجًا لا يمكن تعميمه بحكم سلوكه وسياساته التي تختلف عن القيم والمبادئ التي يفترض ألا يتماهى معها بالمقارنة مع النماذج الأخرى.
أما الإشارة الثانية، فهي الانتصارات الميدانية التي حققتها الحركات السياسية العسكرية في المنطقة مثل حركة حماس في قطاع غزة أمام الصهاينة وحركة (طالبان) أمام أمريكا وحلف الناتو ،ما أعطى نماذج ناجحة في التغيير ،وبالرغم من كون تلك الحركات لها أجهزة عسكرية وهياكل أمنية قوية إلا أنها تمتلك أذرع سياسية تعمل على إدارة العلاقات مع الدول في محيطها الإقليمي بشكل يتسم بالنضج ويؤكد أن ما هو عسكري خاضع بشكل كامل للسياسات التي تضعها المكاتب السياسية أو مجالس الشورى أو جهات اتخاذ القرار المختلفة بحسب كل حركة أو حزب، كما أن بعض تلك الجماعات بها مسار لتبادل السلطة ولايتفرد شخص بعينه في إدارة تلك الحركات كما عند حماس وطالبان، عكس تنظيم الدولة الإسلامية وفروعه المختلفة التي تتسم سياساتها بالتهور وتقديم الحلول العسكرية على أي مسارات أخرى، خاصة فيما يتعلق بإدارة المكونات المجتمعية المختلفة بخلاف الأفكار شديدة التطرف التي يتبناها.كما لا تغيب الأحزاب الشيعية عن ذلك السياق أيضا مثل حزب الله في لبنان ، الذي قدم نموذجًا ناجحا في مواجهة قوات الاحتلال أو المرونة أو القدرة على استيعاب الضربات المختلفة، تتمثل تلك الإشارات في أن القوة تعتبر أداة للدفاع عن النفس أو الدفاع عن الاستحقاقات الانتخابية أو في مواجهة التدخلات العسكرية والأمنية من طرف الغرب.
استطاعت عدة حركات تجنب الاستئصال كما في تجربة حزب الله اللبناني الذي فرض نفسه كأداة فاعلة في إدارة الخلافات الداخلية مع المكونات المجتمعية والسياسية المختلفة حتى لا يتم استئصاله من المشهد السياسي ككل، وهو ما صنع قدرا من التوازن الداخلي، خاصة أمام الأحزاب السياسية التي تتبنى أفكار الغرب وسياساته وتحظى بدعمه، وهو ما يجعلها تفكر جديا في المآلات التي قد تنعكس عليها، لكن تبقى معضلة الشرعية الدولية والحصار الذي قد تفرضه المنظومة الدولية والذي تستخدمه أمريكا كأحد الأدوات في تقويض أي دولة وهو ما يمثل تحديا وتهديدا مباشرا لأي حركة تأتي على رأس السلطة، وهو ما قد يؤدي لسقوطها داخليا ،مثل حصار حماس في قطاع غزة، وكذلك الحركة الإسلامية في السودان التي فُرضَ عليها حصار اقتصادي كبير، لكن حتى الآن يمكن أن تعمل الحركات والأحزاب السياسية العسكرية الإسلامية على مواجهة هذا التحدي إذا تبنت إدارة حكيمة مع المكونات السياسية والمجتمعية المختلفة واتبعت مسارات إصلاحية داخل بنيتها التنظيمية تسمح فيه بتداول السلطة داخل كيانها، حيث يجعلها قادرة على استيعاب تطلعات الشباب بين صفوفها وتطوير سياساتها وبناها الإدارية والتنظيمية المختلفة. لكن ستظل تلك الأداة مصدرَ تهديدٍ متنامٍ.
الإشارة الأخيرة والسؤال الذي سنتعرض له هو مدى قدرة الدول القومية التي نشأت بعد سايكس بيكو على مواجهة الاضطرابات الداخلية وسط مؤشرات التراجع الأمريكي، فضلا عن مواجهة نمط مختلف من الحركات الإسلامية يمكن أن يتبلور بشكل جديد في ظل خفوت قدرة الأحزاب السياسية على التغيير. هذا بجانب تنامي الفساد الذي عملت تلك الأنظمة على حماية شبكاته واتباع سياسات غير رشيدة اقتصاديا ومجتمعيا تتنامى معها شريحة الأغنياء وتزاداد الطبقات الفقيرة ،بالتوازي مع تقلص الطبقة المتوسطة التي لا تزال الأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية ترى فيها مصدرا للتهديدات حيث إن أغلب من قادوا الحراك سياسيا ومجتمعيا هم من تلك الطبقة. كما أن تصاعد حضور مواقع التواصل الاجتماعي يعطي مساحة للشعوب في تلقي معلومات من مصادر متنوعة ومختلفة، فيما تتراجع قدرة الدولة على صناعة رأي عام واحد وفرضه.
السؤال هنا هل استطاعت الدولة الحديثة أن تقدم حلولا لتلك الشعوب أم عملت على تعظيم المشكلات كي تسود الدول الكبرى وتحافظ على مصالحها، وهل تعمل تلك الدول وفق تطلعات الشعوب وتلبي رغباتها أم لا؟، وهل تمتلك تلك الدول قرارا مستقلا أم هي تابعة لنظام آخر وتعمل بشكل وظيفي وفق مصالح النظام العالمي والقوة المهيمنة، إن عملية الانسحاب الأخيرة لأمريكا ودول الناتو من منطقة الشرق الأوسط يضع تلك الأنظمة في محك كبير أمام مواجهة الشعوب.
قد تكون الفوضى بيئة خصبة لفرض سياسات الغرب وأمريكا في المنطقة لكنها تمثل في الوقت نفسه فرصة للتغيير إذا كانت فوضى غير محدودة لا تستطيع أجهزة الدولة استيعابها، وكما رأينا كيف انهارت حكومة أشرف غني في أفغانستان، وهرب بن علي في تونس، وسقط حسني مبارك في مصر، وقتل معمر القذافي وعلي صالح في كل من ليبيا واليمن، يمكن أن نرى في المستقبل انهيارات أكبر وفوضى أكبر، ورغم الصورة القوية التي تصدرها الدول الداعمة لمسار الثورات المضادة إلا أنها تعاني العديد من المشكلات الداخلية والهيكلية ما قد ينذر بانهيارها بشكل سريع، كما رأينا سقوط الحكام في ثورات الربيع العربي وحكومة أشرف غني في أفغانستان التي اتسمت بالمفاجأة ، فسقوط حكومة كابل في 11 يومًا وانهزام إسرائيل في حربها الأخيرة في غزة يعطي نماذج نجاح قد تدفع الشعوب لتبني مسار المواجهة، وتشجع على تبني ذلك المسار، لكن المعضلة الكبرى هي أن وضوح المعادلة بين حركة مقاومة واحتلال يجعل لها قبولا شعبيا فيما أن مواجهة الأنظمة الدكتاتورية تجعل المعادلة معقدة ما يجعل فرص نجاح ذلك المسار صعبة للغاية وغير واقعية، وفي كل الأحوال تعاني تلك الأنظمة من فساد كبير حيث يتراجع دورها في تقديم الخدمات وتلبية الاحتياجات الأساسية المتمثلة في الخبز والعمل والزواج والتعليم والصحة وغيره.
في النهاية يمكن القول بأن المنطقة تشهد أزمةَ تمثيلٍ سياسي، ولم تجد الشعوب والمكونات المجتمعية المختلفة مسارات يمكن أن تعبر من خلالها عن نفسها ومشكلاتها، وهو الأمر الذي يدفعها للتحرك رفضا لغلق المجال العام، وهو ما قد يدفع الشعوب لتبني مسارات ثورية مع استمرار غلق المجال العام خاصة أن المجتمعات تشهد تطورا في ديناميات الحركة خلال العقد الأخير بعد ارتفاع أعداد مستخدمي شبكة الإنترنت وزيادة أعداد المشتركين على مواقع التواصل الاجتماعي التي لا تزال تمثل أرقا للأنظمة، خاصة مع تراجع الأحزاب السياسية في تحقيق أي نجاح يذكر في عملية الإصلاح أو التغيير في دول الربيع العربي .
اضغط لتحميل الملف