تختلف وجهات نظر المحللين والمتابعين حول الصراع الإيراني الإسرائيلي المباشر أو بالوكالة؛ منذ اجتياح طوفان الأقصى للمنطقة، وما أعقب ذلك من رد إسرائيلي وردود أفعال مضادة من بعض حلفاء إيران سواءً في جنوب لبنان من قبل حزب الله، أم في اليمن حيث يستهدف الحوثيون إمدادات دولة الكيان وحلفائها ويمنعونها من المرور في البحر الأحمر.
وبينما يتململ حلفاء دولة الكيان من العربدة غير المسبوقة التي تمارسها في كل اتجاه، وتحت الضغوط الشعبية في تلك الدول، والاستحقاقات السياسية قي بعضها كالولايات المتحدة الأمريكية؛ تحاول دولة الاحتلال إعادة الالتفاف وحشد التضامن الغربي حولها، والنكاية في إيران وحلفائها، فعمدت إلى عدة ضربات موجعة في جنوب لبنان وسوريا، تجاوزت بها الخطوط الحمراء والتوازنات العسكرية والاستراتيجية، ومن آخرها الهجوم على القنصلية الإيرانية في سوريا.
ولقد استفز هذا العدوان إيران ووضعها في حرج واستحقاق داخلي وخارجي، لم يدع لها مجالًا للصبر ولا للصمت، خاصة بعدما رفع طوفان الأقصى سقف المواجهات في المنطقة، الذي قامت به حركة مقاومة محاصرة، فكيف بدولة في حجم وإمكانات ومشروع إيران!
طائفية معلنة ولكن
كالعادة في أي مواجهة تشترك فيها إيران أو حزب الله؛ تبرز نظريات عدة وتحليلات متفاوتة، والحديث هنا عن الجمهور العربي والإسلامي بشكل عام، وتتباين وجهات النظر بين من يعتبر ما يجري بطولة تدافع فيها إيران عن الأمة الإسلامية وتواجه الشيطان الأكبر هي وحلفاؤها، بينما يعتبرها آخرون “تمثيلية هابطة” و”مسرحية هزلية” يتقاسم فيها الفرس واليهود وحلفائهما الأدوار، ويعملون ضد عدو واحد وهم المسلمين السنة والعرب منهم خاصة!
ولنا هنا مع هذا الطرح الأخير عدة وقفات ضرورية ألخصها فيما يلي:
لا شك أنَّ إيران دولة شيعية طائفية، اتخذت ذلك شعارًا لها ودونته رسميًّا منذ ثورتها في دستورها الذي يقصر دين الدولة الرسمي على المذهب الشيعي الجعفري الاثني عشري، كما لا ريب أنَّ البعد الطائفي صار واضحًا جليًّا بعدما اضطرت للمجازفة بأهم أوراقها في المنطقة وهو حزب الله؛ بإقحامه بشكل مباشر وكامل في الصراع الذي نتج عن الثورة السورية.
وقد أعلن أمين عام حزب الله حسن نصر الله -بصفته القيادة الأبرز في هذا المحور- وبعد احتدام المعارك في سوريا مباشرة ولأول مرة بهذا الوضوح؛ وفي المناسبة السنوية لليوم العالمي للقدس؛ أنَّ حزب الله الحزب الشيعي الإمامي الاثنا عشري -بهذه المفردات- لن يفرط في فلسطين.
ومن الجدير هنا التنويه للأهمية الدينية لقضية القدس عند الشيعة بشكل عام والإمامية بشكل خاص، لارتباطها بمسألة شعورية وهي خلافة الإمام المهدي عليه السلام، التي ستكون في بيت المقدس بحسب الروايات التراثية عند عموم المسلمين، ولكون الإمام المهدي هو آخر الأئمة الاثنا عشر والذين هم دعائم المذهب، كما أنَّه صاحب الثأر ورمز انتصار الشيعة وآل البيت على أعدائهم وخصومهم بحسب اعتقادهم كذلك.
إذًا فالبعد الطائفي ليس غائبًا لا عند إيران ولا حزب الله ولا الحوثيين، كما أنَّ المشروع الذي تتبناه تلك الطائفة واضح معلن كذلك ولا ريب فيه، لذا لا يمكن تصور نفيه أو تغييبه من أذهاننا عند استحضار أهداف الصراع، باعتباره قتالًا من أجل الطائفة ومشروعها الذي يمثل الخط الصحيح للأمة في ذهنية أصحابه، فهو بهم ولهم في الحقيقة.
وبينما لا يمتلك الطرف السني في عمومه أي مشروع تتبناه دولة سنية، خاصة الدول ذات الثروات الضخمة التي تبنت الطائفية السنية من جهتها كنوع من الحواجز لصد المد الإيراني بعد الثورة، وبينما يتحرك المشروع الشيعي طيلة خمسة عقود مؤكدًا أهمية استثمار المال السياسي، يقف المكون السني حائرًا في العراء، إذ يمتلك العصبية المذهبية دون مشروع؛ اللهم إلا مشروع واحد وهو المقاومة الإسلامية الفلسطينية، وهو للمفارقة العجيبة مدعوم إيرانيًّا كذلك. وبدلًا من التفاف القوى “السنية” حول هذا المشروع ودعمه راح الكثيرون يشككون فيه ويتهمونه بسبب هذا الدعم والذي لا يتوفر غيره في الحقيقة!
وبينما يمثل أي محك بين إيران وحزب الله إظهارًا للقوة الشيعية، فإنَّه يثير الخوف عند الفئات والأشخاص المهووسين بالطائفية، فهم يخشون أن يمثل ذلك دعاية للتشيع كمذهب وأفكار وقضايا، وقد يكون كذلك فما العمل!
فمواجهته لا تكون بالعيش في حالة إنكار للوقائع والحقائق على أرض الواقع، فهو صراع وجودي دموي يقتل فيه كل يوم قيادات كبيرة وأفراد كثيرة من الإيرانيين واللبنانيين وغيرهم، ومن أبنائهم، كما تنفق فيه أموالهم.
فعندئذ يكون الادعاء بأنَّ هذه المواجهة مجرد “مسرحية” أو “تمثيلية” هو درب من العبث والغيبوبة ورفض الحقائق، ونصرة المذهب أو السنة لن يحققها المغيبون ولن تتأتى “بالأكاذيب”، وإنما تكون بالرد على المخالفين، بالحجة والبرهان في القضايا العقدية والفكرية من الناحية التنظيرية، كما تكون بتدشين مشروع عملي جاد يعمل على إيجاد التوازن الميداني والإقليمي سياسيًّا وعسكريًّا.
سرديات قلقة
يبدو واضحًا وكاشفًا أنَّ ادعاءات المؤامرة هذه بين الشيعة والكيان أو الشيعة والغرب، هي لترقيع حالة الاهتراء التام في الوضع السني الحالي ومداراة ضعفه، فدول وأنظمة تُنسب للسنة بينما هي متآمرة ومتواطئة علنًا مع دولة الكيان، بل ومطبعة باتفاقيات وداعمة بأموال ومناصرة بفتح القواعد والأجواء بل والمشاركة أحيانًا في الدفاع عن الكيان، وحركات ومجموعات وفئات رضعت الطائفية وأشربت بلا وعي نظرية المؤامرة، ولُقِنَت ألفاظًا ساذجة سطحية مثل “المسرحية” و”التمثيلية” وغيرها؛ ولا أدري ما سر هذا الولع بالمصطلحات الفنية بينما تتوجس غالبية الحركات السنية من الفن عاطله وباطله، لماذا لا يقال مثلًا أنَّها مؤامرة أو خدعة أو نحو ذلك، إلا إذا كان هذا شعورًا مستبطنًا بأنَّ كل دورنا هو في مقاعد المتفرجين فحسب!
وهل تؤدي التمثيليات وتصنع المسرحيات بقتل القادة والأبناء وإنفاق المليارات، ثُمَّ أليس مضحكًا أن يزعم ذلك من لم يخوضوا يومًا أي معركة ولم يقدموا أي تضحية، ويبدو أنَّ كل ما يحسنونه هو الشعور المنتفخ بالذات دون مقومات حقيقية.
إنَّ الزعم بأنَّ هذا الصراع الشرس ليس سوى مؤامرة لخداعنا ونشر التشيع، فضلًا عن كونه كاذبًا على الأقل في شقه الإنكاري الأول؛ إلا أنَّه محاولة لصنع أهمية ذاتية وهمية لا يعطيها لأولئك الزاعمين أحد، فمن ذا الذي هو مضطر إلى أن يمثل أو يتمسرح عليهم، فالآخرون يفعلون ما يريدون سواءً المحور الإيراني الشيعي أم الصهيوني الغربي.
فأما المحور الإيراني فلم يعد مجرد قوس شيعي يمتد من إيران إلى الشام عبر العراق، وإنما صار طوقًا شيعيًّا يحيط بجزيرة العرب كالسوار للمعصم، ويشمل إيران والكويت والبحرين وشرق السعودية ويسيطر على اليمن ويمتد عبر الشام والعراق! وأما المحور الصهيوأمريكي فيسيطر على جل دول الخليج ومصر والأردن وغيرها.
كما يبدو متناقضًا رفض حقيقة هذا الصراع وقوته وتأثيره على المنطقة والعالم لمجرد أنَّهم لم يخوضوه لكي ينصروا السنة، بينما الحقيقة أنَّ إيران تدعم حماس والجهاد وهما فئتان سنيتان، لا أقول إنَّها تدعمهما بغير أهداف، وإنما هو استثمار آخر تحيد به بعض الفئات السنية وتكف شرها وتكسبها كحليف بدلًا من انضوائها لصفوف الخصوم، كما تؤرق بها مضجع ما يسمى بإسرائيل؛ ومن يدري فلعل هذا الاستثمار يؤتي أكله يومًا على مر الأجيال ويغير من ولائها العقائدي.
تشيع متوهم
رغم الدعم الإيراني للمقاومة الفلسطينية السنية فلم تظهر أي دلائل واقعية صادقة تؤكد تشيع أي من الفئتين أو أحد من أفرادهما، اللهم إلا دعاوى غير مؤكدة عن شخصية قيادية أو شخصيتين هنا أو هناك، بينما صدرت مؤلفات لبعض الرموز الدينية المحسوبة على نفس تيار الحركة الأساسية في النضال وهي حماس مثل كتاب: الوشيعة في كشف شنائع وضلالات الشيعة للدكتور صالح الرقب وهو كتاب كبير يحذر من المد الشيعي ويتوجس منه.
أما التصريحات السياسية أو المجاملات الموسمية في المناسبات؛ كتهنئة أو تعزية أو شكر من قيادات حماس، فلمن يشاء أن يعدها برجماتية سياسية أو تجاوزًا لدماء المسلمين السنة في سوريا والعراق؛ أو غيرها من اعتبارات، لكنها ليست دليلًا على التشيع بحال، ولنا أن نرفضها أو نستهجنها، لكن ليس لنا أن نخذل إخواننا المقاومين السنة بسببها، أو نقف في صف أعدائنا الصهاينة ضد المسلمين الشيعة مهما كان عمق اختلافنا معهم.
ويبدو عجيبًا ذلك الطرح الذي ينفي حقيقة المعركة بين الشيعة والكيان؛ بدعوى أنَّ من يسبون أبا بكر وعمر وأمهات المؤمنين والصحابة -رضي الله عنهم جميعًا- لن يقاتلوا لينصروهم أو ينصروا الأمة، بينما لم يَدَّعِ أحد قط من الشيعة أنَّ هذا هو سبب القتال، بمعنى أنَّ من يزعمون هذا ينفون المنفي أصلًا، لكي يخلصوا منه إلى نفي الحقيقة نفسها، بينما يقاتل الشيعة لحماية دولتهم ومشروعهم السياسي الذي يستعلن فيه الطائفي المذهبي ويستبطن القومي الفارسي أحيانًا.
كما تحمل دعاوى المؤامرة تلك خطيئة أخرى؛ وهي وضع الشيعة جميعًا في بوتقة واحدة، دون تفريق بين العامة والخاصة، ولا بين الزيدية والإمامية، ولا العرب والفرس، وهو تكرار لنفس المسلك الخاطئ للمقاومة السنية الباسلة في العراق ضد الاحتلال الأمريكي مطلع الألفية؛ الذي جَيَّشَ الجميع ضد أهل السنة إذ كان يمكن التفريق بينهم.
وتتغاضى تلك الدعاوى المتشككة عن حالة الرعب والتوتر التي يعانيها الجيش الإسرائيلي والسياسيين من مشاركة حزب الله في معارك تداعيات الطوفان، وانضمام لاعب شيعي جديد وهم الحوثيون إلى الصراع، والتوتر الدائم من إيران ومشروعها النووي وقوتها العسكرية، والخسائر البشرية التي يتكبدها الكيان في كل ذلك بالإضافة إلى التكلفة الاقتصادية.
حتى القواعد الأمريكية لم تسلم من القصف وقتل الجنود والضباط، بينما تبقى مهددة في الخليج في حال توسع الصراع إقليميًّا وهو ما يحدو بأمريكا إلى إلجام هذا التوسع، بينما يسعى نتنياهو وحكومته إلى تمدده لتوريط أمريكا والآخرين ليبقى آمنًا هو ودولته الغاصبة.
يمكنك أن ترفض وتستنكر عقائد الشيعة، ومن الضروري أن ترد على أطروحاتهم وتنظيراتهم، بل يمكنك أن تقاتل المعتدي منهم أو من غيرهم على دماء المسلمين في سوريا أو غيرها إن استطعت، ولكن لا يصح بحال أن تقبل أو تعمم التفكير المريض بالأمنيات، فهذا التفكير الشعبوي والانحياز العقلي للأماني الكاذبة وتطويع العقلية السنية لذلك بدلًا من الاستناد للحقائق والأرقام والوقائع وتحديد خطورة وتقدم المشروع الشيعي، ومدى ملاءمة حالة الأمة المسلمة لمثل هذه المناكفات، وإبقائها في دائرة غيبة الوعي، ما يقضي على أي تفاؤل في تحقيق مكاسب أو انتصارات قريبة، فلن نتمكن أبدًا من مواجهة المد الشيعي ولا الفكر الشيعي ولا المشروع الشيعي ولا غيره بالأوهام والأمنيات.