مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا ، يزداد الانغماس الغربي والأمريكي تحديدًا في المواجهة مع روسيا ، مما سيُلقي بتداعياته مستقبلًا على مناطق احتكاك بين الطرفين ، وإن كان في الوقت الراهن يبدوان قادرين على فصل المسارات والملفات ، لكن مع تصاعد المواجهة بينهما سيتعذر ضبط مناطق الاحتكاك والمواجهة ، وربما أي خطأ ولو عرضي قد يُودي بمواجهة كبرى . كان من أكثر تجليات هذا الانعكاس على الساحة السورية ما قامت به طائرتان روسيتان بالإغارة على مواقع للمغاوير السورية المتحالفة مع الأمريكيين في قاعدة التنف جنوب شرق البلاد ، وهو الحادث الأول الذي يقع بهذا الشكل ، وترافق هذا مع تواصل للأردن مع مجموعات ثورية سورية في الجنوب من أجل مواجهة التمدد الإيراني على حدودها ، والتي قضى اتفاق سابق قبل سنوات ، برعاية واشنطن و موسكو و دبي ألَّا يكون هناك تواجد للمليشيات الإيرانية وبعمق أكثر من 40 كم ، لكن لم يتم الالتزام به.
الحرب الأوكرانية بقدر ما أشغلت روسيا في كييف بعيدًا عن سوريا ، بقدر ما أتاحت فرصةً للتمدد الإيراني على الحدود مع الأردن ، فكان لقاء مدير الأمن الوطني السوري علي مملوك ، مع أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني ، ثم زيارة خاطفة لرئيس النظام السوري بشار الأسد إلى طهران ، لتؤكد رغبة الأخيرة في استغلال الانشغال الروسي هذا ، لكن الأردن بقدر ما يُقلقه التمدد العسكري الإيراني على حدوده ، بقدر ما يقلقه بالمقابل استخدام بلاده كمحطة ترانزيت للحشيش والكبتاغون القادم من الأراضي السورية ، إذْ قلما يخلو يوم دون أن تعلن القوات الأردنية القبض والاستيلاء على شحنات حشيش قادمة من الأراضي السورية ، هذا فضلًا عن الشحنات التي قد تجد طريقها إلى الأردن وما بعد الأردن دون الكشف أو الاستيلاء عليها.
ترافق هذا مع عودة الأردن بقوة إلى مخيم الركبان للنازحين السوريين في جنوب شرق البلاد ، عبر إعادة استئناف مساعدات طبية وإغاثية ، بينما قضت الفترة الماضية بأن تكون المساعدات عبر مناطق النظام السوري ، وهو ما عنى أن الأردن على مرحلة جديدة ، وسياسة الأردن هذه بكل تأكيد تعطي مؤشرات على طبيعة السياسة الغربية المقبلة ، وإلَّا فمن الصعب الاعتقاد بأن تحرك الأردن هذا أتى بمفرده دون دعم وإشارات غربية.
روسيا من طرفها أرسلت إشارتين مهمتين على تغيير قواعد لعبتها مع أمريكا في سوريا ، كانت الإشارة الأولى قبيل قمة أستانا 18 التي غدت أشبه بمسلسل باب الحارة السوري ، والتي أتت على لسان الكسندر لافرنتيف مندوب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للشأن السوري بأن المسار الوحيد المتبقي أمام السوريين هو مسار الأستانا ، وليس مسار جنيف ، مما يعني إبعاد وتنحية الغربيين وبالتحديد الأمريكيين عن القضية السورية ، أما الإشارة الثانية فكانت دعوة لافرنتيف كذلك إلى إغلاق القوافل الإغاثية المجازة كل ستة أشهر عبر مجلس الأمن الدولية من معبر باب الهوى بوجه ملايين النازحين السوريين في الشمال السوري المحرر ، مما عزز الرغبة الروسية بجعل القضية السورية حصريًّا بينها وبين إيران وتركيا، بعيدًا عن الغرب والأمريكيين ، وبالتأكيد فإن هذا لن يكون مقبولًا غربيًّا ، ولا حتى إسرائيليًّا .
وهو ما جعل تل أبيب تسارع للرد على قواعد اللعبة الروسية الجديدة ، بفرض قواعدها كذلك من خلال قصف مركز غير مسبوق لمطار دمشق وإخراجه عن الخدمة لأول مرة ، وتهديدها بقصف قصور الرئيس السوري الذي اعتبرته عاجزًا عن السيطرة على التمدد الإيراني المتواصل في سوريا ، وهددت إسرائيل كذلك بقصف مرافئ سورية تقوم إيران باستخدامها على الساحل السوري مما يعني أننا قد نشهد قواعد لعبة سورية جديدة مختلفة تمامًا عما شهدناه في السنوات الماضية ، وتجلَّى الغضب الروسي باستدعاء موسكو للسفير الصهيوني لديها وإبلاغه امتعاضها للقصف السابق.
أخيرًا ، بكل تأكيد فإن العيونَ اليوم مُنصَبَّةٌ على أوكرانيا ، وطبيعة التصعيد الروسي _الأمريكي والتي قد تدفع الطرفين إلى تحريك جبهات أخرى من أجل إضعاف بعضهما بعضًا ، ولعل الجبهة السورية ستكون أكثر ترشيحًا في ظل الانسداد الحاصل بالاتفاق النووي الإيراني ، وممانعة واشنطن وتل أبيب التمدد الإيراني في الأراضي السورية على حساب الانشغال الروسي في أوكرانيا .
**الآراء الواردة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر منتدى العاصمة**