أرسى الثالث من يوليو 2013 “عقدًا اجتماعيًّا ضمنيًّا” جديدًا بين السلطة والمواطنين، يجبُّ ويمحو العقدَ الاجتماعيَّ التقدميَ الذي حاولت ثورة يناير 2011 إرساءه بخصوص سيادة القانون على الجميع، ويستند جوهر هذا العقد إلى مشروعيَّة استباحة كلّ مواطن مسيَّس؛ لا سيما إذا كان هذا المواطن إسلاميًّا، مع تواطؤ جميع عناصر المشهد على القبول بتلك الاستباحة، ضمن معادلة: الأمن أولًا وقبل كلّ شيء. وهو ما كان السيسي قد بلوره في بواكير تسريباته إبان توليه منصب وزير الدفاع في 2012 عن عدم محاسبة أيّ ضابط يصيب أو يقتل مظاهرًا، خلافًا لما حاولت يناير إرساءه من سيادة القانون.
وفي المقابل، يصبح تلقائيًّا المواطن العادي غير المسيَّس في مأمن، ما دام أنّه بعيد عن الشأن العام تنظيميًّا أو عبر تجنب التفاعل الصاخب مع المستجدات اليومية، فإن لم يكن هذا المواطن ينزل إلى الانتخابات الموسمية بالأمر ويرقص أمام اللجان ويشحذ الدعاية أمام مقر عمله ويحضر مناسبات “مستقبل وطن – حياة كريمة”، فليسعه بيته وسيظلّ في أمان.
تفكيك العقد الضمني
ولكنَّ الملاحظ أنَّه بمرور الوقت ومع تثبيت فوقيَّة الضباط على المحاسبة والقانون، صار المواطن العاديّ غير المسيس مستهدفًا، ومن أبرز هذه الحالات كانت تعذيب المواطن مجدي مكين 2016 في قسم شرطة المطريَّة حتى الموت ودفع الشابّ البائع المتجول محمد عيد إلى إلقاء نفسه ليموت تحت عربات القطار في عام 2019؛ عقابًا على عدم حيازته ثمن التذكرة، تطبيقًا للعقليَّة العسكريَّة في وزارة النقل الّتي يترأسها كامل الوزير رئيس الهيئة الهندسية السابق بالقوات المسلحة.
كذلك شهد عام 2020 واقعتين مشابهتين، حيث قتل شرطي مواطنًا بسيطًا في الأقصر يُدعى عويس الراوي بالرصاص حينما عبر عن غضبه من إهانة والده أمامه، كما عذّب ضباط قسم شرطة المنيب شابًا يدعى إسلام الأسترالي حتى الموت، ما أدَّى إلى اندلاع مظاهرات استثنائيَّة عفوية في هذه المنطقة.
يبدو أنَّه مع تغوُّل نفوذ العسكريين في كل شاردة تخص الحياة، بدأ شعورهم بالأمن من العقاب يتفاقم، فلم تعد حالة عدم احترام القانون أو المواطن مقصورةً على ضابط الشرطة. ففي نهاية 2022 اقتحم ضابط طيار مستشفى مدنيًّا في قويسنا وأعمل رفقة أسرته الضرب والجلد في الكادر الطبي، احتجاجًا على ما اعتبروه سوءًا في الخدمة المقدمة.
وهكذا وصولًا إلى قيام ضابط طبيب نهاية يونيو 2023 بدهس أسرة في “مدينتي” جزاءً وفاقًا لهم على خدش أحد أبناء الأسرة سيارته أثناء اللعب “بالإسكوتر”، ما أدى إلى وفاة الأم وإصابة الأبناء.
يمكن الاستشعار من تواتر تلك الحالات في وقت قصير نسبيًا، أنَّ هناك إحساسًا عامًا لدى طبقة الضبَّاط بالحماية من أعلى المستويات، خاصةً بعد أن استطاعت السلطة حماية رجالها المتهمين في مقتل الباحث الإيطالي “چوليو ريجيني” من المحاكمة رغم الضغوط الخارجيَّة.
كثيرًا ما تلجأ السلطة إلى التضحية بكبش فداء لاحتواء الغضب الناتج عن هذه الحوادث، على غرار تعاملها مع واقعة القطار الَّتي قدمت فيها الكمسري وحده للمحاكمة، وواقعتي مقتل مجدي مكين وإسلام الأسترالي، اللاتي انحصر توجيه الاتهامات فيهما على أمناء الشرطة دون الضبَّاط مع تخفيف الأحكام الصادرة ضدهم أو العفو كليًّا عن الجناة، كما جرى مع الأمناء المتهمين بتعذيب مكين مؤخرًا.
لكن في النهاية، تضاعف هذه السياسة من الإحساس العام بالظلم والقهر، فلا تقتصر المعاناة على الفقر والحاجة فقط في ظلِّ الديون الخارجية التي قاربت 170 مليار دولار ومعدلات التضخم القياسيَّة، إنما يسود شعور بالغُبن والاستباحة، وهو ما يهدد السلمَ الاجتماعيَّ إذ تلعب تلك الوقائع دور الشرارة التي قد تُقدح فجأة فتحرق الجميع!