كغيرها من القضايا الأمنية البارزة في لبنان على مدى قرابة ثلاثين سنة مضت، تدور التحقيقات في قضية انفجار مرفأ بيروت (4 آب/ أغسطس 2020) في حلقة مفرغة دون الوصول إلى نتائج ملموسة رغم مرور ثلاث سنوات على الحادث. ولأن لبنان يعيش منذ عقود مشهدًا استثنائيًا تُربط جُلَّ الأحداث فيه بالانقسامات السياسية الراسخة والاستقطاب الطائفي المتأصل، فقد باتت قضية انفجار المرفأ تأخذ هذا المنحى أيضًا حيث تتجاذبها الخلافات السياسية والطائفية المتفاقمة في البلاد.
فبعد توقفه عن متابعة التحقيقات لأكثر من سنة وكف يده عن الملف بفعل دعاوى قضائية تطالب بتنحيته، استأنف قاضي التحقيقِ العدلي طارق البيطار- الذي يحظى بدعم وتأييد حزبي الكتائب والقوات اللبنانية والنواب التغييريين والمستقلين- التحقيق في ملف تفجير مرفأ بيروت وادعى على ثمانية أشخاص جدد من ضمنهم مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم، ومدير عام أمن الدولة اللواء طوني صليبا، ومدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات. قرار البيطار استدعى رد فعل غير متوقع من القاضي عويدات- المدعوم من الثنائي الشيعي أمل وحزب الله- حيث أمر بإطلاق سراح كافة الموقوفين في قضية انفجار المرفأ وعددهم 17 شخصاً، وأوعز إلى إدارات السجون التي يُحتجزون فيها بالإفراج عنهم فوراً، وادعى على القاضي بيطار نفسه بجرم “اغتصاب السلطة” وأبرق إلى جهاز الأمن العام بمنعه من السفر خارج لبنان.
على إثر ذلك، عاد أهالي ضحايا انفجار المرفأ إلى الاحتجاج في الشارع دعمًا للقاضي بيطار ورفضًا لقرار القاضي عويدات بإخلاء سبيل الموقوفين، ونشبت مواجهات بالأيدي بينهم وبين عناصر قوى الأمن الداخلي أمام قصر العدل في بيروت. لكن تداعيات هذا الانقسام القضائي انعكست بشكل رئيسي على الواقع السياسي الذي يشهد تأزمًا شديدًا في ظل خطاب طائفي متصاعد منذ بدء الفراغ الرئاسي عقب انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
يُذكر أن القاضي طارق البيطار واجه منذ تكليفه بملف انفجار المرفأ معارضة شديدة من حزب الله وحلفائه، حتى أنه تسلم رسالة شديدة اللهجة من مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا تشير إلى انزعاج الحزب من مسار التحقيقات وتهدد بإزاحته عن القضية.
بدأ الانقسام القضائي اليوم في لبنان يأخذ طابع المواجهة الشيعية المارونية، في ظل استياء الموارنة المتزايد من سطوة حزب الله على القرار في لبنان وتراجع تمثيلهم السياسي والأمني والقضائي فيه. وفي المقابل، يرى حزب الله وحلفاؤه أن تحقيقات القاضي بيطار مسيسة بفعل التوجيه والتحريض الأمريكي في محاولة مشابهة لقرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2008 بإقالة مدير أمن مطار بيروت المحسوب على حزب الله. ويؤكد الفريق المعارض للحزب أن الأخير يسعى لتعطيل التحقيق في قضية المرفأ خشية أن تفضي التحقيقات لكشف حقيقة أن الانفجار ناجم عن استهداف الطائرات الإسرائيلية للمرفأ الذي كان يحوي معدات ومواد تتبع للحزب.
يتخوف اللبنانيون من خروج هذه المواجهة السياسية- القضائية عن السيطرة، فقرار حكومة السنيورة عام 2008 تسبب بأحداث 7 أيار التي اجتاح فيها مقاتلو حزب الله والأحزاب المتحالفة معه شوارع العاصمة بيروت ما أسفر عن اشتباكات دامية ووقوع قتلى وجرحى. وإن كانت أحداث 7 أيار قد أخذت طابع المواجهة السنية الشيعية، فإن المواجهة المقبلة- إن حصلت- ستكون شيعية مارونية على غرار أحداث الطيونة عام 2021.
يربط بعض المراقبين ما يحدث في لبنان بالتصعيد الغربي- الإسرائيلي تجاه إيران حيث يسعى حزب الله لتحصين جبهته الداخلية وإزاحة مناوئيه من مواقع القرار تحسبًا لأي مواجهة إقليمية محتملة. لكن الحزب يضع الأحداث في خانة التضييق على (المقاومة) في لبنان لإفقادها أوراق القوة داخل مؤسسات الدولة والتي تحمي ظهر (الحزب). وأمام الفراغ السياسي المستمر والانقسام القضائي الحاصل، وفي ظل تصاعد حدة المواجهة الدولية بين روسيا والغرب وتزايد التوتر بين إيران من جهة والغرب وإسرائيل من جهة أخرى، تغيب مؤشرات حلول الأزمات اللبنانية المتفاقمة في المدى المنظور ما يُنذر اللبنانيين بالأسوأ على صعيد الأزمة الاقتصادية- الاجتماعية التي تعصف بهم منذ عام 2019.