لا يحمل العنوان أدنى قدر من المبالغة، فمنذ 7 أكتوبر الّذي يعتبره المحللون العسكريون أحد أكثر الأيام سوادًا في تاريخ الاحتلال، تحوّل أبوعبيدة الناطق باسم الجناح العسكريّ لحركة حماس إلى نجم شعبيّ مضيءٍ في سماء الأمة المكلومة.
يتغنّى الأطفال الصّغار باسمه ويبتهجون لرؤيته، كما لو كانوا على علمٍ تام بفحوى خطاباته، ويتجمّع الشباب على المقاهي ترقبًا لجديد بياناته، وتدبج القصائد الشعبيَّة فخرًا بشجاعته وبلاغته، فما أبرز نقاط قوّته؟
بطل أمّة
في الوقت الّذي يخذل فيه حكّام العرب آمال شعوبهم في الوقوف الجادّ مع فلسطينيّي غزَّة الّذين تجمّعت ضدّهم قوى الشرّ عالميًا، ليس في هذه الحرب فقط، وإنّما في منهجٍ تاريخيّ مطّرد، بدأ مع اتفاقيّة السّلام المصريَّة، الّتي اجترّت معها الاتفاقيات العربيَّة الواحدة تلو الأخرى، منذ نهاية السبعينيّات..
وفي الوقت الّذي يترسّخ فيه الاحتلال كـ“عقدة”، يصعب تجاوزها، في الوجدان السياسيّ العربي، سياسيًا وعسكريًا، إلى حدّ هرولة بعض الممالك العربيَّة لتقديم القرابين طمعًا في استرضائه؛ فإنّ المواطن العربيّ يجد قوى المقاومة الّتي تتكثّف رمزيًا في حضور أبوعبيدة الإعلامي، تمرّغ أنف هذا الكيان في التراب، وتذيقه الذلَّ، وتنزع عنه الكبرياء المزيَّف بالجهد التراكميّ والتنظيم والإعداد والإيمان.
باستعارةٍ بصريَّة من عالم الدّراما، فإنّ حضور أبوعبيدة بات يشبه حضورَ البطل الخيِّر الّذي يظهر متأخّرًا لينقذ الحارة من البلطجيّ الّذي روّع الجميع ردحًا من الزّمن، فيخبرهم البطل ضمنيًا ومباشرةً، أنّ هذا البلطجيّ لم يكن بهذه القوّة المتخيَّلة، وأنّ جانبًا معتبرًا من بطشه كان مرتبطًا بالإرهاب المعنويّ الّذي يصدّره لخصومه، وأنّهم قادرون بالتماس الأسباب على تحييده أيضًا، ما يعيد إليهم الثقة في أنفسهم.
بلاغة “الفعل”
لدى العالم العربيّ فائضٌ من الخطب العنتريَّة؛ صحيح أنّ هذه اللّغة الرّنّانة الحادّة بدأت تنزوي بدورها مع انقضاء عهد الجيل السّابق من الزعماء العرب ذوي الاتجاهات القوميَّة، ولكنَّ الوجدان العربي، وربما الإسلامي أيضًا، لا زال محمّلاً بهذا العبء التاريخيّ، متوجّساً من كلّ قائد يبتذل الأفعال المرجوّة على مذبح الخُطَب العصماء.
لا يفعل أبوعبيدة ذلك!
عند أبوعبيدة، تأتي اللّغة “رديفًا” على الفعل، فالرّجل الّذي يغتال الاحتلال معنويًا بمعجمه المبتكَر، الّذي صار سائرًا على ألسنة العموم، كحديثه عن دكّ تل أبيب الّذي هو “أسهل من شربة ماء”، هو نفسه الّذي لا يظهر، إلا وفي جعبته غلَّة معتبرة من البطولات والأخبار السّارّة الشّافية للصّدور، والمدعَّمة بالدلائل، عن استخدام سلاح نوعيّ جديد أو عن إيقاع خسائر بالجملة في صفوف المحتلّ، وهو ما ميَّزه عن غيره من أقرانه التّابعين للحركات والدول، وخلق بينه وبين المتلقّي علاقةً تقوم على المصداقيّة.
طبيعة القضيَّة
مما يميّز تلك العلاقة الّتي نشأت بينه وبين المشاهد العربيّ أيضاً، هو طبيعة القضيَّة الّتي يمثّلها أبوعبيدة والّتي تتكثَّف في حضوره الإعلاميّ؛ فالأمر ليس أنّ الرّجل صار بطلا حقيقيا لقطاع عريض من البشر الّذين يفتقدون للبطولة وحسب.
وإنما نحن بصدد بطولة أخلاقية كذلك، فالرجل يمثّل قضيةً عادلةً جامعة في وجه عدوّ تتكثَّف فيه بدوره ذروة التطوّر التاريخي للاستعمار الغربيّ والتّفنن في الدّمار المحدَّث المجرَّد من الضّمير، إلى درجة أن تصبح الأهداف الأساسيَّة عنده هي الأطفال والنساء والمشافي دون اعتبار للعواقب؛ وهو ما يمنحُ أبوعبيدة ومَن ورائه من المظلومين والمقاومين بالتبعيَّة، مزيدًا من التّعاطف والتّأييد.
الحضور البصريّ.. رمزيَّة اللثام
مع عدالة القضيَّة وأخلاقيتها وجسارة من يمثّلهم أبوعبيدة في وجه الطغمة الاستعماريَّة المجرَّدة من الأخلاق، والمصداقيَّة المتراكمة الّتي أرساها النّاطق العسكريّ مع جمهوره، إلى حدّ أنّ دوائر إعلام العدوّ تولي أهميةً كبيرة لبياناته، والبلاغة الخطابيَّة الّتي جعلت عباراته مضربًا للمثل؛ فإنَّ الحضور البصريّ باللثام رسّخ صورته في الذّهن كأيقونة حقيقيَّة في المجتمع العربيّ.
بالإضافة إلى الاستدعاء التاريخيّ لغطاء الوجه كلازمةٍ بصريَّة لدى مقاتلي الصفّ الأول في الإسلام، والتأكيد الضمنيّ على مركزيَّة “الاحتراز الأمنيّ” عند التعامل مع هذا العدوّ البارع في تلك المساحة عبر اللثام؛ فإنَّ قطعة القماش المموّهة تلك تقوم بوظيفة غاية في الأهمية، وهي عزل الذاتي، أي ملامح وجه المتحدّث، أبيض أم أسود، ملتح أم أمرد إلخ، لتركّز تفاعل المتلقّي مع المضمون والموضوع دون غيره.
ولا يفوتنا هنا أنّ نلفت إلى أنّ أبوعبيدة – إذا مثَّلنا سيرته الذاتيَّة في دالة بيانيَّة – يمرّ حاليًا بذروة تأثيره، فمع ظهوره منذ أكثر من عقد، إلّا أنّ جودة حضوره وحجم تفاعل الجمهور معه قد وصل إلى ذروته تزامنًا مع معطيين مهمّين: الأول هو بداية تبلور شخصية جيل Z بعد حقبة الثورات المضادة للربيع العربي، والثاني هو تطور المنحنى التصاعدي للمقاومة منذ معركة “سيف القدس” في مايو2021.
وفي الأخير، يمكن القولُ إنّ الملثَّم، لما له من تأثير وهالة وهيبة، أصبح نفسه أحد أبرز أشكال إسناد المقاتلين في الميدان، وأنه يسري عليه ما يسري على المقاتلين من النّضج والصقل بمرور الزّمن، وهو ما يلفت إلى أهميَّة الصبر وتراكم الخبرة والتعلّم من الأخطاء، كقيم أساسيّة مؤطّرة لعمل أيّ جماعة تهدف للتحرر والتغيير.