تخطي الروابط

صناعة الجهل في عصر المعرفة: مصر نموذجاً

في زمن يُفترض أنه عصر الانفجار المعرفي، يبرز سؤال جوهري: كيف يستمر الجهل، بل يتعمق أحياناً، في مجتمعات تسبح في بحار المعلومات؟ 

الإجابة الصادمة هي أن الجهل ليس غياباً للمعرفة وليس مجرد نقيض للعلم فقط، بل هو حضور للقوة؛ تلك القوة القادرة على صناعة متقنة، وسلعة يُنتجها ويتداولها ويستثمر فيها من ينتفع بها أو من هو في مصلحته ترويج الضلالات والأكاذيب، فنحن لا نعيش فقط في عالم المعلومات، وإنما في عالم “اللامعلومات” المُهندسة، والمموّلة، والمُستخدمة لأغراض الهيمنة السياسية والاقتصادية.

وفي السياق المصري الراهن ـ كأبلغ مثال على ذلك ـ ليست صناعة الجهل عرضًا جانبياً؛ بقدر ما هي سياسة دولة مدروسة، ومستقرة في الإعلام والتعليم والخطاب الديني، وتهدف إلى حماية النظام من خلال إغراق المجتمع في حالة دائمة من الضبابية، وعدم الاكتفاء بالمنع المباشر فقط، بل من خلال التعتيم والتشويش والتشكيك والتشتيت.

فالمشكلة ليست في الجهل بوصفه حالة من الفراغ المعرفي، أو مجرد حالة اجتماعية طارئة ناتجة عن ضعف الموارد أو هشاشة التعليم؛ بقدر ما هو “نظام معرفي مضاد” متكامل الأركان، يُوظّف من الدولة كأداة تُستخدم عمدًا في هندسة وعي الجماهير، وتوجيه الإدراك الشعبي لإنتاج نموذج المواطن الطيع المنفصل عن الحقيقة، والعاجز عن المساءلة، وبالتالي ضبط المجال العام، بتفريغه من أي مضمون نقدي أو تحرري. وهذه الرؤية ليست مبالغات تحليلية، بل إحدى الخلاصات الجوهرية من تمحيص المناهج التعليمية والسياسات الاجتماعية والاقتصادية، والبروباجندا الإعلامية وغيرها.

أولًا: صناعة الجهل من المجتمع العلمي إلى الشارع

الجهل يُصنع كما تُصنع الحقيقة، بل ويُوجَّه لخدمة القوة كما تُوجَّه الجيوش، والجهل المعاصر لا يولد بالصدفة، بل يُصنع عمدًا ضمن ما يُعرف بـ”الإجنوتولوجيا” أو (علم صناعة الجهل)، الذي لا يفتش عما لا نعرفه فحسب، بل لماذا لا نعرفه؟ ومن المستفيد من إبقائنا في تلك الحالة؟

إن أخطر أشكال الجهل ليست تلك التي تنشأ من فقر في الموارد أو ضعف التعليم أونقص المعلومات، بل تلك التي تُصنع عن وعي، بتكتيكات محسوبة، لتفكيك الوعي العام وبث الشك في كل سردية لا تخدم مصالح الطبقة المسيطرة، من خلال إنتاج نشط للزيف، وحجب متعمد للحقائق، وتضخيم للسطحي، وتفريغ للمناهج، وإشغال للرأي العام.

وذلك حينما يكون امتلاك الحقيقة بيد الجماهير عدواً للقوى المهيمنة سياسياً واقتصادياً وعلى رأسها الأنظمة والحكومات التي تضلل شعوبها، فتعمل على حجب المعرفة أو تحويرها من أجل حماية مصالحها، وتجند من أجل ذلك الهيئات والمنظمات الأمنية والمعرفية والدعائية، كما تقوم عليه الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات كشركات تصنيع الأدوية والتبغ والمنتجات الغذائية الصناعية وغيرها، أو أنظمة تعليمية تُفرغ العقول من التفكير النقدي والدراسة التطبيقية والشخصيات الإبداعية.

وفي بلد كمصر على سبيل المثال، نرى هذا جليًا في الطريقة التي تُدار بها قضايا أساسية:

مثل تغييب التاريخ الحقيقي للثورات والنضال الشعبي والأنظمة المتعاقبة، وتمرير الاقتصاد السياسي للفساد تحت شعارات وسرديات وطنية مفرغة، وتقزيم التعليم إلى مهارة امتحانية بلا عمق أو تفكير، بهدف تغييب الأجيال وإشغال الجماهير، وتحويل الإعلام إلى ضجيج مملوء بالشخصنة والتفاهة الترفيهية، بينما يئن الواقع تحت السطح بالفقر والجهل والمرض.

ثانيًا: البنية المؤسسية لصناعة الجهل

صناعة أو إنتاج الجهل ليست فوضى إذاً، بل هي هندسة محكمة، تقوم على إدارة ما يُقال وما يُخفى، وتستخدم أدوات العصر الرقمي لتعميق التشويش بدلًا من رفع الوعي، من خلال ثلاث مؤسسات مركزية لصناعة وإنتاج الجهل:

1ـ الإعلام كأداة للتجهيل الجمعي إذ يُعاد تشكيل البرامج والأخبار لتخدم الرواية الرسمية أو تُسوّق الخوف أو التباس الحقائق، وصناعة أعداء وجوديين لأمن المجتمع حيث يلعب النظام دور المنقذ الوهمي، وبالتالي يكتسب أهمية وجوده من اللاشيء.

ولا يقتصر دوره على نشر الأكاذيب، بل يعمل على خلق بيئة اجتماعية محبطة، ومعرفية مضللة تطمس الحقائق تحت ركام من الأخبار المتضاربة، والدراما المُسيسة، والوجوه المتشابهة في الصراخ والتخوين.
ويُعد الإعلام المصري الرسمي والخاص الموالي، أبرز أدوات إنتاج الجهل وتثبيت الرواية الرسمية، فلا يقتصر دوره على ترويج الخطاب السياسي للنظام، بل يتعداه إلى خلق بيئة معرفية ملوثة تُغرق المتابع في سيل لا ينقطع من الأخبار المفبركة، والتفاهة الممنهجة، والاستعراضات الوطنية الزائفة، كما تعمد لإشاعة الفوضى والتفسخ والعداء المجتمعي، حيث تُجهز المواطن نفسيًا لقبول كل أنواع العسف والتفاوت الاجتماعي والذل والمهانة، وتجعله أداة بيد النظام الحاكم لإقصاء خصومه.

كما تم إبراز وجوه إعلامية غريبة على شاشات تلك القنوات الإعلامية، وهي من تصدرت في السنوات الأخيرة مشهد صناعة الجهل، إذ يتم عبر هذه النماذج تحويل كل أزمة إلى مؤامرة خارجية، وكل نقد إلى خيانة، مع خلق أعداء دائمين، مثل “الإخوان” أو “الطابور الخامس” أو “دعاة الفوضى”، لتبرير القمع وتحييد العقل النقدي. كما يلاحظ غياب التحقيقات الصحفية الجادة، والبرامج الحوارية ذات الطابع التنويري، وتحل محلها برامج استعراضية تُشخصن القضايا، وتُفرغها من مضامينها.

الشركات الكبرى: مثل شركات النفط التي تُموّل أبحاثًا مزيفة تنفي مسؤوليتها عن الاحتباس الحراري والتغير المناخي، وشركات الأدوية واللقاحات التي تصنع الأوبئة أحياناً لتروج لقاحات هي أكثر إضراراً منها غالباً، وشركات الأغذية المصنعة التي تروج معلومات مضللة حول أنماط التغذية وأنواع الدايت وتخفيف الوزن وأضرار السمن الطبيعي لمصلحة مبيعات المصنع، وغيره من الأغذية!

 ٢ـ التعليم المُفرّغ: إذ يقدم مناهج تُقصي الأسئلة المنطقية والفلسفة الحياتية بحيث تتجنب صناعة الإنسان المفكر، أو تقديم المعرفة المفيدة، بل تُدجّن العقل وتكرس مفهوم الخضوع والطاعة، عبر مفاهيم زائفة عن الوطنية والتاريخ والهوية، لتقدم مُنتَجاً تعليمياً هدفه خلق موظف مطيع، لا مواطن فاعل.

ومنذ عقود، تحوّل التعليم المصري إلى أداة لتدجين العقول لا بنائها، إذ تآكلت المناهج، واختُزلت المعرفة إلى حفظ للمقررات لتجاوز الامتحانات، وأُفرغت العلوم الاجتماعية كالفلسفة والتاريخ من بعدها النقدي، بل نص رئيس الدولة نفسه على عدم أهميتها وأمثالها من مواد واستبدالها بغيرها! وعلى سبيل المثال، فقد حُذفت معظم فقرات ثورة يناير من مناهج الدراسات الاجتماعية، كما جرى تهميش الرموز الشعبية لصالح تمجيد الرموز السلطوية.

لقد تراجعت نسبة الإنفاق على التعليم الجامعي والعام، مقابل توسع تعليم أبناء النخبة من خلال “بوتيكات” الجامعات الدولية والخاصة، بينما تُرسّخ مناهج التربية الوطنية مفهوم الولاء للنظام أكثر من حب الوطن، مع تغييب الفكر النقدي في المقررات بطبيعة الحال، وتضييق المجال أمام البحث العلمي المستقل، مما حول الجامعات إلى مؤسسات بيروقراطية، أقرب ما تكون إلى إدارات أرشيفية تُعيد إنتاج الجهل تحت مسميات علمية.

٣ـ تأميم المقدس بإضفاء الصبغة الدينية على الجهل، وتبرير تجاوزات السلطة باسم الدين، من خلال سيطرة السلطة على بعض المؤسسات الدينية، أو التحالف معها، بحيث تُستخدم مفاهيم إخضاعية “كالطاعة” و”الفتنة”، و”الخروج على الحاكم”، لشرعنة الاستبداد، وتحريم الثورة، وإعادة تأويل مفاهيم الجهاد والخروج والشورى بما يخدم السلطة، مع إقصاء أي فكر نقدي أو تصحيحي أو إصلاحي.

وقد عمدت السلطة المصرية إلى تأميم التدين ومؤسساته، عبر السيطرة على الأزهر، وتوظيف دار الإفتاء، وتوجيه وزارة الأوقاف، مما حوّل الخطاب الديني إلى مخدرات تبث في المجال العام لتغييب الجمهور، وإلى وسيلة لتحريم الفعل السياسي، وتجريم النقد السلطة أو حتى إخفاقات الحكومة والوزراء والمحليات وغيرها.

ثالثًا: كيف يُقتل الوعي؟ 

تتبدى تقنيات ثلاث رئيسية تُستخدم في إنتاج الجهل: 

1ـ التعتيم حجب المعلومات أو تأخيرها، كما يحدث مع الوثائق السرية أو التقارير المحرجة كالمصروفات في مشاريع غير ذات جدوى والعوائد منها أو تخويل أغلب المشاريع لجهات معينة بالإسناد المباشر، أو التكلفة الباهظة بأضعاف التكلفة الحقيقية لصالح شبكات النفوذ، أو غير ذلك.

وفي هذا المضمار تضخ السلطة في مصر كماً هائلاً من المعلومات المتضاربة، والبيانات غير الدقيقة، والأرقام غير الموثوقة، كما في مشاريع مثل العاصمة الإدارية التي تُقدم كإنجاز وطني دون شفافية مالية أو تقييم اقتصادي.

2ـ التشتيت عبر تكتيكاتلا تُستخدم فقط في الأنظمة السلطوية، بل أصبحت جزءًا من البنية الإعلامية والمعلوماتية المعولمة، تعمل على إغراق الجمهور في التوافه، عبر طوفان من الترفيه الفني أو الأخبار السطحية والبرامج الخفيفة والدراما الموسمية، والبرامج الساخرة، والفضائح المصطنع، لإشاعة مناخ من اللاجدية والابتذال، وإلهاء العقول عن أزماتها الجوهرية والقضايا الجذرية.

3ـ التشكيك عبر خلق حالة من الريبة حيال العلم والمعرفة، من خلال تضخيم الآراء الشاذة أو تقديم الرأي العلمي كأنه “مجرد وجهة نظر”، أو بتعميم فكرة أن “الجميع كاذب وفاسد”، لغرس اليأس كيقين “بأنه لا فائدة”، وبالتالي تُعطيل القدرة على التمييز

وفي مصر يجري التشكيك في أي خطاب بديل لخطاب السلطة، سواء أتى من المعارضة أو من الباحثين المستقلين أو حتى من مؤسسات إعلامية أو حقوقية أو أممية خارجية، مهما كانت نزاهتها وموثوقيتها، ووصم الجميع بلا استثناء بالتآمر أو العمالة، كما حدث مع الشخصيات السياسيىة الشبابية المحسوبة على ثورة يناير، أو بعض الاقتصاديين المستقلين في رؤيتهم لكارثية سياسات السلطة، وبعض الإعلاميين الليبراليين الذين حاولوا تقديم رؤية مخنتلفة.

رابعًا: تفكيك الجهل والمقاومة المعرفية

ينبغي ألا نكتفي بتشخيص الظاهرة والتنديد بها، فمن الضروري المبادرة إلى العمل على تفكيك منظومات الجهل، وتطوير أدوات المقاومة المعرفية، عن طريق عدة أدوات، من أبرزها:

  • التعليم التحرري والنقدي الذي يُحرّض على التفكير ولا يكتفي بالتلقين، ليُنتج متعلمين لا يُحسنون الإجابة فقط، بل يتقنون طرح التساؤلات في الشأن العام ويشاركون في تكوين الرؤية.
  • الإعلام المستقل عبر تدشين منصات وشبكات إعلامية نقدية تعيد ترتيب الأولويات وتفضح آليات التضليل ولا تكتفي بتصحيح المعلومة فحسب. 
  • تشكيل شبكات اجتماعية دينية وسياسية تتفاعل فيما بينها لمناهضة الجهل والنضال ضد صناعه.
  • فتح المجال المعرفي العام عبر مبادرات بحثية وتشاركية شعبية تقاوم السردية الرسمية.
  • السعي إلى الوصول للبيانات والمعلومات، وجعلها مشاعاً للجماهير، ومن أبرز الأمثلة لذلك هي محاولة جوليان أسانج في تجربته الرائدة “ويكيليكس”.

لكن الأهم في هذا المضمار ألا تقتصر مقاومة الجهل على النخبة فقط مهما كانت واعية، فالنخب يمكن حصارها واختراقها، وألا تكتفي بعمل المؤسسات فحسب، فالمؤسسات يمكن تأميمها، بل ينبغي تعميمها لتصبح ثقافة تصنع الفرد الفاعل، الذي يقرر ألا يكون متلقيًا سلبيًا، بل جزءًا من المعركة، بحيث يملك شجاعة السؤال ووعي التلقي ورفض التصديق والانسياق الاعتباطي. 

خامساً: نحو مقاومة معرفية فاعلة

ليس الهدف هنا هو رصد آليات التجهيل واقعياً فحسب، وإنما تسليط الضوء على مأزق الإنسان المعاصر الذي بات محاطًا بكم هائل من المعلومات، دون أن يمتلك المفاتيح النقدية لتفكيكها أو ترتيبها، في عالم يتداخل فيه الحقيقي بالزائف، والمعرفة بالدعاية، مما يجعل من مقاومة الجهل مهمة استراتيجية لا تقل أهمية عن مقاومة الفقر أو الاحتلال، بل هي المدخل الحقيقي لهذه المهمة.

ولعل أخطر ما في الجهل المصنّع أنه يبدو طبيعيًا، بل أحيانًا أكثر راحة من الحقيقة، ولهذا فإن تفكيكه يبدأ من طرح السؤال المقلق: من الذي يتربح من جهلنا؟ ومن يخاف حين نعرف؟ ولماذ؟

وبعد ما قررنا كل ما سبق وطرحناه للنقاش؛ يجب علينا أن نعيد تعريف المعركة السياسية بأنها في جوهرها معركة على الوعي والحقيقة، وإذا كانت الأنظمة الاستبدادية تصنع الجهل لضمان السيطرة، فإن تفكيك هذا الجهل هو الخطوة الأولى نحو استعادة المبادرة وصناعة الإنسان العالم المفكر.

وإذا كانت أهم الصناعات التي طورتها السلطة الحالية في مصر هي “صناعة الجهل” كوسيلة لحماية نفسها وتوطيد حكمها، فإن مقاومة الجهل تصبح فعلاً سياسيًا ضرورياً من الدرجة الأولى، فلا يكفي انتقاد مناهج التعليم أو برامج الإعلام فحسب، فنحن بحاجة إلى مشروع وطني معرفي، يعيد الاعتبار للعقل، ويحرر الدين من التوظيف، ويُعيد سرد التاريخ من منظور شعبي لا رسمي، ويطرح الاقتصاد من زاوية العدالة لا الأرقام الحكومية، ويُطلق التعليم من أسره الكمي إلى فضائه النقدي والفلسفي، فلا بد من بناء بدائل معرفية مستقلة على النحو التالي باختصار، مثل:

  • منصات إعلامية مستقلة تُعيد ترتيب الأولويات، وتفتح الملفات المغلقة.
  • مبادرات تربوية ومجتمعية تعيد إنتاج التعليم خارج الإطار الرسمي، عبر ورش فكرية ومراكز معرفية شعبية.
  • استعادة الخطاب الديني من قبضة الدولة، بإحياء الفكر الإصلاحي والاجتهادي.

وأخيراً: فإن الجهل ليس قدَراً لا مفر منه، بل هو سياسة، ومقاومته ليست ترفاً أو عملاً وعظياً بل هو حق إنساني، ومواجهة وجودية بين الإنسان وكل رموز الهيمنة والطغيان، كما أنه واجب نحو الوطن والأجيال القادمة، فالوعي لا يُمنح، بل يفرض عنوة على صناع العتمة، ومن يمتلك الوعي يملك القدرة على المساءلة، وعلى الحلم بمستقبل أفضل؛ وهذا هو ما يُخيف السلطة أكثر من الجهلة أنفسهم، ولهذا يُصنع الجهل.