خيوط الصراع في طرابلس

اضغط لتحميل الملف

دفعت المواجهات العسكرية التي اندلعت في 9 أغسطس الماضي بين كتائب منطقة تاجوراء حالة التوتر الأمني والسياسي في العاصمة الليبية طرابلس إلى ذروتها، ورغم محدودية المواجهات على مستوى العمليات العسكرية، إذ لم تدم أكثر من ست ساعات ضمن نطاق جغرافي ضيق -أقل من كيلومتر مربع-، فإنَّ القذائف المدفعية المستخدمة أحدثت زلزالًا سياسيًّا وأمنيًّا في العاصمة المتأهبة.

جرت الاشتباكات بين تشكيلين بينهما عداء تاريخي واشتباكات متكررة على مر السنوات الماضية، وهما كتيبة “رحبة الدروع” التابعة لبشير خلف الله وكتيبة “الشهيدة صبرية” التابعة لعبد المعطي رمضان، وهي كتائب ينتمي معظم منتسبيها إلى منطقة تاجوراء الواقعة شرق طرابلس. وقد بدت الاشتباكات التي اندلعت أثناء صلاة الجمعة كأنها حلقة جديدة في مسلسل العداء التاريخي بين الفصيلين، لكن ما أن خفت صوت الرصاص حتى ظهرت علاقة الاشتباكات بالاستقطابات داخل العاصمة.

تمددت رقعة عمليات القوة المهاجمة لتطال مقر قوة العمليات المشتركة، وهي قوة من مدينة مصراتة موالية لحكومة الوحدة الوطنية ويرأسها العميد “عمر أبو غدادة”، واستغلت القوة المهاجمة “رحبة الدروع” زخم الهجوم على مقر كتيبة “الشهيدة صبرية” لإخراج القوة المشتركة من مقرها ثم هدم أسواره، كما تم التحفظ على مجموعة من الآليات وأسر مجموعة تواجدت بالمعسكر، ومع انتهاء الاشتباكات أعلنت كتيبة رحبة الدروع رفضها لعودة القوة المشتركة.

سرعان ما خرجت شخصيات من منطقة سوق الجمعة -حاضنة قوة الردع ومجال نفوذها- في بيان مرئي أكدت فيه دعمها الكامل لتحركات “أبناء تاجوراء” وأنَّه “في حال تدخل أي قوة من خارج المنطقة فإنَّ كل مكونات سوق الجمعة مستعدة للدفاع عن تاجوراء”، وهو تحرك بدا للوهلة الأولى غريبًا نظرًا لغياب السياق والمقدمات، كما أنَّ العلاقة التاريخية بين مكونات المنطقتين (سوق الجمعة وتاجوراء) لا تسعف ادعاءات البيان.

دفعت هذه التطورات إلى إعادة قراءة حادثة الاشتباك بين كتائب تاجوراء، حيث اعتبرها كل من رئيس الحكومة “عبد الحميد الدبيبة” وآمر القوة المشتركة “أبو غدادة” استهدافًا واضحًا لتحالف الحكومة في طرابلس، ومحاولة لقطع خط إمداد رئيسي هو مصراتة- طرابلس عبر السيطرة على بوابة طرابلس الشرقية تمهيدًا لعزل الحكومة وحلفائها.

وقد مثلت هذه التطورات وما أجرته من توتر أمني، وقودًا للصراع السياسي الجاري بين حكومة الدبيبة وبين تحالف محافظ مصرف ليبيا المركزي “الصديق الكبير” ورئيس البرلمان “عقيلة صالح” وقوى المنطقة الغربية الموالية لهما.

ما وراء الحدث

تتمركز بالعاصمة ثلاثة تشكيلات مسلحة كبرى تمثل القوى الأمنية والعسكرية المهيمنة على المشهد، الفصيل الأول هو جهاز الردع بإمرة “عبد الرؤوف كاره” الذي يهيمن على المنفذ الجوي الوحيد للعاصمة (مطار معيتيقة) ويتمركز في المنطقة التي تحتضن المصرف المركزي ووزارة الخارجية وعدد من المؤسسات الرسمية الأخرى.

الفصيل الثاني هو جهاز دعم الاستقرار بإمرة “عبد الغني الككلي” الذي امتد نفوذه خلال السنوات الماضية من زعيم جهاز أمني يسيطر على بضع مؤسسات في مجال نفوذه بمنطقة بوسليم ومحيطها إلى شبكة من الأجهزة الأمنية والوحدات العسكرية حيث يتبع له كل من “جهاز الأمن الداخلي بإمرة “لطفي الحراري”، وجهاز حماية المنشآت بإمرة “أسامة اطليش”، واللواء 555 مشاة التابع لوزارة الدفاع، بالإضافة لاتساع صلاحيات جهاز دعم الاستقرار ونطاق نفوذه. 

الفصيل الثالث هو اللواء 444 التابع لوزارة الدفاع بإمرة “محمود حمزة” المنشق عن جهاز الردع، ويمتد وجود اللواء وحضوره العسكري عبر معظم مناطق ومداخل جنوب طرابلس ويُعدُّ الجهة الأقل انخراطًا في الصراعات السياسية داخل العاصمة.

إنَّ ابتعاد اللواء 444 عن صراعات النفوذ داخل مؤسسات الدولة والتحالفات السياسية في العاصمة، صنع حالة مواجهة غير مباشرة بين جهازي الردع ودعم الاستقرار، إذ انقسمت مناطق العاصمة المركزية بين الطرفين، ومع تزايد حالة الاحتقان السياسي وتحرك الأطراف المناوئة للحكومة في طرابلس وخارجها، تبنى الطرفان مواقف غير نهائية من أطراف النزاع، حيث مال جهاز دعم الاستقرار لتحالف الحكومة، في حين مال الردع لتحالف محافظ البنك المركزي.

ينقسم النزاع في ليبيا إلى مستويات عدة ترسم خريطة المشهد السياسي، فصراعات النفوذ بين التشكيلات المسلحة تمثل أحد هذه المستويات، كما يمثل صراع السلطة بين الأطراف السياسية داخل العاصمة والتي تعمل ضمن إطار العملية السياسية الأممية مستوى آخر، في حين يمثل الصراع الجهوي أو المناطقي مستوى أعمق، فضلًا عن الانقسام الحاصل على مستوى البلاد بين المعسكر الشرقي والغربي، ويأتي الانقسام على مستوى التوجهات السياسية الفكرية في ذيل قائمة المستويات.

وتمثل هذه المستويات المختلفة والمتداخلة عوامل اشتعال كامنة في المشهد تؤثر في بعضها بشكل مستمر، ما يجعل من المشهد السياسي والأمني سائلًا وسريع التشكل إلى حد كبير، ويُعدُّ تقلب مواقف وولاءات المجموعات المسلحة في طرابلس أبرز تجلياته.

وتيرة متسارعة

منذ اشتباكات التاسع من أغسطس، استشعرت أطراف النزاع ارتفاع مستوى التهديد والخطر ما سرع وتيرة الإجراءات العدائية، فعلى المستوى السياسي أكد البرلمان بقيادة “صالح” على قانونه السابق بسحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية، كما أصدرت هيئة رئاسته قرارًا بوقف العمل بقانون سابق بعزل “الكبير” -وهي مخالفة قانونية- بالإضافة إلى إصداره لقرار يقضي بسحب صفة القائد الأعلى للجيش من المجلس الرئاسي “محمد المنفي”، وفي المقابل أعلنت الحكومة في بيان رسمي أنَّها تستمد شرعيتها من الاتفاق السياسي وليس من البرلمان، وشرع المجلس الرئاسي المتحالف مع الحكومة في إجراءات تطبيق قرار مجلس النواب بإقالة الكبير وتعيين “محمد الشكري” محافظًا للمصرف المركزي. 

على المستوى الأمني، شهدت العاصمة تحركات لأرتال عسكرية وزيادة في التمركزات ونقاط التفتيش، كما شهدت اجتماعات أمنية موسعة حيث أجرى رئيس الوزراء بصفته وزيرًا للدفاع اجتماعًا مع القيادات العسكرية والأمنية المتحالفة معه والتابعة له وهم: “عبد السلام زوبي” آمر اللواء 301، و”الككلي” آمر جهاز دعم الاستقرار، و”الحراري” رئيس جهاز الأمن الداخلي، و”أبوغدادة” آمر القوة المشتركة من مصراتة، و”محمد بحرون” آمر قوة الإسناد من الزاوية، و”معمر الضاوي” آمر كتيبة 55، ووزير الداخلية “عماد الطرابلسي وشقيقه آمر جهاز الأمن العام “محمد الطرابلسي” بالإضافة إلى مجموعات أخرى من طرابلس ومصراتة منها كتيبة 52 من تاجوراء.

تشير حالة الانسداد السياسي، التي تعبر عنها البيانات الرافضة للاعتراف بشرعية الأجسام والقرارات المختلفة وانقسام المجلس الأعلى للدولة، إلى ارتفاع احتمالية الانزلاق نحو الحرب بشكل كبير، وقد نجحت تكتيكات تحالف الحكومة التي تركزت حول تجاوز الصراع عبر الأدوات السياسية إلى استهداف منصب محافظ البنك المركزي الصديق الكبير بشكل مباشر في نقل خصومها من حالة الهجوم إلى الدفاع. 

ضمن مساعي تحالف الحكومة للتضييق على الصديق الكبير، اعتقل جهاز الأمن الداخلي مدير إدارة تقنية المعلومات بالمصرف المركزي “مصعب مسلم”، لكن الكبير رد سريعًا بتصعيد أشبه بالقصف العشوائي عبر إغلاقه جميع منظومات العمل المصرفي في البلاد؛ ما أحدث حالة شلل دامت بضع ساعات قبل أن يطلق الأمن الداخلي سراح مسلم وتعود المنظومة المصرفية للعمل.

على صعيد آخر قد يواجه تحالف الحكومة خطر التفكك في حال فشله في إسقاط الكبير وعودة المشهد لحالة من الجمود، إذ قد يبدو حينها تحالف الكبير وصالح أكثر جاذبية خصوصًا في ظل الدعم المصري لصالح وحفتر، والدعم الأمريكي للكبير، ووقوف أنقرة على حياد.

يد القاهرة الطويلة

لم تغب الأطراف الدولية والإقليمية عن المشهد، فبصمة القاهرة التي ربما دخلت علاقتها مع طرابلس مرحلة اللاعودة كانت حاضرة في ترتيبات إسقاط حكومة الدبيبة، إذ دعمت تحركات رئيس البرلمان بمنح الثقة للحكومة الموازية (حكومة الشرق) برئاسة أسامة حماد الذي استقبله نظيره المصري مصطفى مدبولي في العلمين -في حدث غير مسبوق- وهو ما دفع خارجية حكومة الوحدة الوطنية إلى إصدار بيان شديد اللهجة استنكرت فيه “استقبال الحكومة المصرية لأجسام موازية لا تحظى بالاعتراف الدولي بشكل رسمي” وحملتها تبعات هذا التصرف، قبل أن توجه مذكرة إلى السفارة المصرية بطرابلس بضرورة مغادرة دبلوماسيين يمارسون مهام استخبارية بالسفارة خلال 72 ساعة.

لعب نظام السيسي دورًا محوريًّا في بناء وتشكيل معسكر الشرق بجناحيه (حفتر-صالح) وتركزت مقاربته نحو ليبيا على تعزيز نفوذ حفتر أمنيًّا وعسكريًّا، ودعم وحماية رئاسة البرلمان من التغيير سواء عبر الانتخابات أو حتى من مخاطر خلافات البيت الداخلي ومحاولات تقويض سلطتها على يد حفتر وأبنائه أو الكتل النيابية.

تشير تحركات القاهرة منذ 2015 إلى تفضيلها الصيغة الحالية بوجود حكومة يضعفها الانقسام في طرابلس، مع هيمنة معسكر الشرق على ورقتي النفط والشرعية السياسية، وهو وضع يضمن لها أن تكون الطرف الأكثر تأثيرًا في المشهد السياسي والأمني، فالانقسامات في طرابلس فتحت الباب على مصراعيه للقاهرة لتكون لاعبًا أساسيًّا على المستوى الأمني والسياسي، وهي اليوم تملك تأثيرًا على مجموعات داخل المجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي الذين استضافتهم القاهرة في أكثر من مناسبة، كما تجمعها علاقات بقيادات أمنية وعسكرية تتردد عليها هي الأخرى. وقد عرقلت القاهرة مرارًا إنجاز مشروع الانتخابات عبر الإصرار على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية بشكل متوازٍ، كما عرقلت اعتماد مشروع الدستور عبر حلفائها وقدرتها على التأثير في الشرق والغرب.

الولايات المتحدة وإدارة توازنات السلطة

على مستوى الأطراف الدولية فقد أخل مبعوث واشنطن الخاص “ريتشارد نورلاند” باتزانه الدبلوماسي بعد اقتراب الحكومة من تنحية “الكبير” من منصبه، حيث خرج نورلاند على عجالة في صورة مع الكبير للتعبير عن دعمه له، وأصدرت السفارة الأمريكية بيانا قالت فيه إنَّ “المبعوث الخاص ناقش مع المحافظ التحركات الأمنية الخطيرة في محيط المصرف المركزي” وأضاف البيان على لسان نورلاند أنَّ “محاولة تغيير رئيس المصرف بالقوة سينتج عنها خسارة ليبيا قدرتها على الوصول للأسواق المالية الدولية”. 

ترتكز سياسة واشنطن تجاه ليبيا على رؤية واقعية تتلخص في الحفاظ على توازن القوى الحالي لما يحمله التغيير من مخاطر كبيرة قد يجاوز تأثيرها الجغرافيا الليبية، ويدير المسؤولون الأمريكيون الملف الليبي عبر قناتين: التعاون الأمني، ومراقبة التدفقات المالية، حيث ينصب تركيز الأفريكوم على التهديدات الأمنية للمصالح الأمريكية في المنطقة، وقد تحولت أولوياتها مؤخرًا من ملف مكافحة الإرهاب إلى ملف التهديد الروسي الصاعد كما تشير استراتيجية الدفاع الوطني واستراتيجية الأمن القومي الصادرة عام 2022، في حين يتابع المبعوث الأمريكي الخاص وفريقه ملف تدفقات عوائد النفط وإدارتها، الذي تقع في القلب منه المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي.

تشكل عائدات النفط أكثر من 95% من عائدات الدولة الليبية، وتنفق الدولة أكثر من 62% من عائداتها على بندي المرتبات لنحو 2.8 مليون موظف ودعم المحروقات، ما يجعل كل من المؤسسة الوطنية للنفط المسؤولة عن إدارة عمليات الإنتاج والبيع وتحويل عائدات النفط لخزانة المصرف الخارجي، والمصرف المركزي المسؤول عن صرف الميزانيات العامة وإدارة القطاع المصرفي، أهم مؤسستين في تحديد اتجاه المشهد السياسي.

شكلت سلطة المصرف المركزي عامل حسم في صراعات ومفترقات طرق سابقة، وذلك عبر قطع التمويل أو عرقلته عن السلطة التنفيذية، وكانت إجراءات “خنق” الحكومات تتم بالتوازي مع التحركات الأممية بقيادة البعثة الأممية والولايات المتحدة لإطلاق حوار سياسي يتوافق على سلطة تنفيذية جديدة، فمثلًا في 2015 لعب محافظ المصرف المركزي دورًا مهمًا في تمرير اتفاق الصخيرات بعد إيقاف تمويل حكومة الإنقاذ والمؤتمر الوطني العام، وتمويل حكومة الوفاق الوطني المتمتعة بشرعية التوافق الدولي.

شاركت واشنطن منذ 2020 في تفاصيل تفاهمات الترتيبات المالية والتي تأتي على رأسها إدارة عوائد النفط وتوحيد المصارف المركزية المنقسمة في 2014، وذلك عبر ما يعرف بمجموعة العمل الاقتصادية المنبثقة عن مؤتمر برلين 1، والتي تضم ممثلين عن: الولايات المتحدة، مصر، الاتحاد الأوروبي والبعثة الأممية. 

عقب هجوم حفتر على طرابلس في 4 إبريل 2019 وحصاره للمواني النفطية، أبدت واشنطن اهتمامًا متزايدًا تمثل في ارتفاع معدل الانخراط، ومشاركة شخصيات رفيعة من واشنطن مثل نائب وزير الخزانة الأمريكي “إيرك ماير” في الترتيبات الجديدة. وأشرفت واشنطن عبر مبعوثيها على إنشاء هيكل عملياتي جديد لإدارة عوائد النفط يخول المؤسسة الوطنية للنفط بتجميد تحويلات عوائد النفط في حساباتها، كما شملت الترتيبات الجديدة نظام المبادلة الذي بدأ العمل به في نوفمبر 2021 وهو نظام يتيح للمؤسسة الوطنية للنفط مبادلة النفط الخام مقابل الوقود بشكل مباشر، وهي إجراءات أضعفت من سلطة المركزي لصالح مؤسسة النفط.

وانعكس حرص واشنطن على إنفاذ واستقرار ترتيباتها الجيدة في اعتراض مبعوثها الخاص نورلاند على إقالة “مصطفى صنع الله” رئيس المؤسسة الوطنية للنفط السابق -الذي شغل منصبه منذ 2011- بعد تفاقم الخلاف بينه وبين رئيس الوزراء “عبد الحميد الدبيبة”، وصرح نورلاند حينها قائلًا إنَّ “المؤسسة كانت مستقلة سياسيًّا وذات كفاءة تقنية في عهد صنع الله” وأنَّ هذا التغيير قد يضر باستقرار المؤسسة وعمليات الإنتاج. وهو تصريح مشابه لتصريحاته الأخيرة حول إقالة الكبير.

إقالة صنع الله جاءت في سياق صفقة سياسية بين حفتر والدبيبة، أدت في النهاية إلى تمكين مرشح حفتر ومحافظ المصرف المركزي الأسبق 2006-2010 “فرحات بن قدارة” من المؤسسة، مقابل رفع الحصار عن الحقول النفطية، وقد أقلق هذا التحول الأطراف الغربية وعلى رأسها واشنطن التي تخوفت من انعكاس تمدد مجموعة الفاغنر الروسية في محيط الهلال النفطي، وتقارب حفتر مع موسكو على ملف التعاقدات النفطية. 

تشير تحركات واشنطن إلى بحثها عن التحلل من الانخراط في مسارات السياسة الداخلية العبثية، مقابل تركيزها على ملف التعاون الأمني مع طرفي النزاع، وزيادة تأثيرها في ملف إدارة الموارد عبر المصرف المركزي والوطنية للنفط، والتي يمكن اعتبارها بمثابة خيوط المشهد ومفاتيحه، كما تتيح لها الظروف الحالية التي تبحث فيها الأطراف الداخلية عن الشرعية في البيئة الدولية مزيد من التأثير في المشهد العام.

تقارب تحت الرماد

خلف الأدوار الخارجية الصاخبة يكمن دور غير صاخب ونشط، ساهم في رسم ملامح المشهد السياسي الحاضر، دور أسس لتقارب بين إبراهيم الدبيبة مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء والعقل الأمني للحكومة، وصدام حفتر رئيس أركان القوات البرية في جيش حفتر والابن الأقوى من بين أبنائه، دور أبو ظبي.

مثلت علاقة حفتر الابن بإبراهيم الدبيبة قناة تواصل وتعاون مهمة في عدد من الملفات الحاسمة، فكانت القناة الأبرز في إنجاح مقايضة فك حصار النفط مقابل تعيين بن قدارة، واستمدت العلاقة فاعليتها من الامتيازات أو الخدمات التي قدمها الطرفان لبعضهما في مناطق نفوذهما، في حين لعبت أبو ظبي التي رعت محادثات الطرفين في 2022 وتملك علاقات قوية بهما، دورًا محوريًّا في التقريب بينهما.

وفي حين يجري التقارب والتفاهم بين الطرفين برعاية إماراتية إلى حد كبير، فإنَّ الطرفين يتحركان بعيدًا عن تأثير القاهرة -الأقرب لخالد حفتر رئيس أركان الوحدات الأمنية- التي تبدو متوجسة من هذه الشراكة، فالقاهرة التي سعت حثيثًا لاحتكار رعاية وإدارة الصفقات بين الأطراف الليبية والتي تحرص على أن تمتد يدها إلى كل مستويات المشهد السياسي والأمني والاقتصادي وأن تكون صاحبة اليد العليا أمام أنقرة والأطراف الإقليمية الأخرى، ترى في إبعادها عن تفاهمات على هذا المستوى تقويضًا لنفوذها وتأثيرها.

وراء ضجيج التحالفات والمعارك السياسية، تعمل أبو ظبي بهدوء على تأسيس ما يشبه الشراكة بين آل الدبيبة وآل حفتر، إذ يبدو أنَّها تتبنى رؤية مختلفة للمشهد عن تلك تتبناها القاهرة، وأنَّها وجدت طريق أكثر هدوءًا لتحقيق مصالحها ومصالح أصدقائها على حد سواء. وقد مثل نجاح صفقة ابن قدارة المقرب من أبو ظبي خطوة مهمة في بناء العلاقة بين حلفائها ويبدو أنَّ الخلاف بين الحكومة والكبير شكّل ركيزة أخرى لهذه الشراكة، حيث تشير المعطيات إلى توافق إبراهيم وصدام على مشروع إسقاط الكبير وتغيير مجلس إدارة المصرف، وهو ما دفع الأخير للانتقال من حالة الخلاف إلى التصعيد الحاد.

خلاصة

يتجه الصراع الحالي بين تحالف الحكومة وتحالف المصرف المركزي إلى مزيد من التصعيد، حيث يمارس كل طرف أقصى إجراءات التصعيد الإعلامي والسياسي، كما يوظف الطرفان سلطتهما القانونية وتحالفاتهما الأمنية لتضييق الخناق على الآخر، ويمكن القول إنَّ الصراع بعد أن مرَّ بفترات مد وجزر لأكثر من عام، فإنَّه قد دخل مرحلة الصفرية اليوم.

في حين تبدو الأوضاع الميدانية في صالح تحالف الدبيبة، تشير المعطيات إلى تقدم تحالف الكبير في الميدان السياسي، وقد استطاع الأخير ممارسة عمله بشكل طبيعي بعد صدور قرار إقالته من المجلس الرئاسي وذلك بعد اجتماعه في 18 أغسطس مع كافة قادة التشكيلات المسلحة من طرابلس ومناطق أخرى للتفاهم حول تهدئة وطمأنة التشكيلات المتحالفة مع الدبيبة، والتي تفيد الأخبار المسربة بتعهدها بعدم التورط في النزاع الجاري شرط أن يلتزم الجميع بحدوده. ويشير استمرار الاتصالات والاجتماعات التي كان آخرها اجتماع “الكبير” برئيس المجلس الرئاسي “المنفي” في 19 أغسطس -وحضره عدد من قادة التشكيلات المسلحة- إلى احتواء زخم محاولات إسقاط الكبير بالقوة، ما يهدد بتفكك تحالف الحكومة أو حدوث تسويات على حسابها.

تمثل خطوة مهاجمة منصب المحافظ بشكل مباشر خطوة غير مسبوقة منذ اندلاع الثورة الليبية وتولي الكبير منصبه في 2011، وهي تنذر بالإخلال بحالة التوازن القائمة، إذ سيمثل المنصب وعضويات مجلس الإدارة ورئاسة المصرف الخارجي ساحة لنزاع شرس ربما يؤدي إلى الإضرار بالحالة الاقتصادية للبلاد واستقرارها النسبي. في المقابل فإنَّ السلوكيات المتهورة والسلطوية التي أبداها الكبير والتي كان آخرها فرض الضريبة على مبيعات النقد الأجنبي بالتوافق مع مجلس النواب متجاوزًا أحكام القضاء، وتمويل معسكر الرجمة، وأخيرًا إجراء تعطيل منظومات المصارف، كل هذه الإجراءات وغيرها وضعته في مواجهة شريحة متسعة من الخصوم، كما ساهمت سياسات الكبير ومحاولاته لتعزيز شرعيته بلقاء المسؤولين الأجانب في تراجع شعبيته بشكل كبير.

 ويُعدُّ الصراع الحالي تعبيرًا عن نجاح معسكر الرجمة (صالح- حفتر) وحلفائه الدوليين والإقليميين في نقل الصراع إلى داخل طرابلس والاستفادة منه في الحصول على مكاسب من الأطراف المتناحرة، وهي حالة صنعتها البعثة الأممية والأطراف الدولية والإقليمية التي صاغت الاتفاق السياسي في 2015 الذي حوَّل مجلس النواب وحفتر -ومجلس الدولة محدود الصلاحيات- إلى ثوابت في المعادلة السياسية.

اضغط لتحميل الملف
مشاركات الكاتب