القبائل المصرية
إن الحضور القوي للدولة المصرية بأجهزتها ومؤسساتها وخاصةً المؤسسة العسكرية والشرطية والتي ترتكز بشكل كبير داخل القاهرة ثم الإسكندرية، وهو ما ساهم ببناء صورة غير صحيحة عند البعض عندما نقوم بالنظر إلى دولة مصر ومجتمعاتها، وفي الحقيقة فإن الدور المركزي للدولة له تأثير وحضور عند كل التكوينات الاجتماعية في مصر خاصة فيما يتعلق بمسألةِ مركزيةِ السلطةِ والقوة التي من خلالها تتم إدارة البلاد، ولكن هذه الصورة لا يمكن أن نقوم بتعميمها بشكل كبير فعند الدخول في التفاصيل نجد الأمر ليس بما هو عليه في تلك الإدارة فهي خاضعة لاعتبارات عديدة منها ما هو متعلقٌ بالأمن القومي سواء بالتوظيف أو بالاستغلال أو بالتهميش أو بالتنسيق.
وبشكل عام يمكننا أن نرصد العديد من التقاطعات بين الدولة العميقة والتكوينات المجتمعية والطائفية بمصر، فنجد على سبيل المثال أن القبائل في الصعيد لها تمثيل داخل أجهزة الدولة بداية من المؤسسة العسكرية وجهاز الشرطة والمحليات والمجالس التابعة لها، بينما قبائل سيناء وخاصة في شمال سيناء ليس لهم ذلك التمثيل بل إنه يحظر دخولهم للجيش والتجنيد، وهو كذلك فيما يتعلق بالنوبة في الملفات الاقتصادية. وبعض تلك القبائل تستطيع تنظيم وتشكيل مجالسها العرفية خاصة في الصعيد دون تدخل الدولة أو بحضور تمثيلي بينما لا تسمح الدولة بذلك الدور في سيناء، وعلى الرغم من وجود مردود إيجابي من تلك المجالس العرفية في تحقيق الاستقرار والحد من انتشار الجريمة خاصة ما تمثله تلك المجالس العرفية من إنجاز في تحقيق العدل، ونحن هنا عندما نقوم بطرح ملف “المجالس العرفية ” أو ما تسميه قبائل أخرى” المجالس الشرعية ” أو ” المحاكم الشرعية ” فإننا يمكن أن نرى تناقضًا في دور الدولة وأجهزتها في التعاطي مع نفس الملف بسياسات مختلفة بحسب القبيلة وهي النقطة التي يجب أن نتوقف عندها كثيرا لمعرفة الأسباب والدوافع لذلك، فنحن نرى على سبيل المثال مشاركة قيادات عليا من الشرطة في المجالس العرفية في الصعيد لحل مشكلة الثأر “التار” وهو بلا شك أمر ليس بسلبي لكن ذلك الحضور هو اعتراف رسمي بالمجالس كآلية لفض النزاع وحل المشكلات بعيدا عن أجهزة الدولة الأخرى المضطلعة بالوظيفة القضائية مما يعطي انطباعًا بأن الدولة غير حاضرة أو وجود أجهزة موازية لبعض الأجهزة الأخرى التابعة للدولة وإن كانت المجالس العرفية ليست مؤسسة لكنها تقوم بوظيفة القضاء، ونحن هنا لا ننتقد ذلك بل نثني عليه لما تمثله تلك المجالس من حل سريع وفوري للعديد من المشكلات بل إننا يمكن أن نرى قيادات الشرطة والحاكم العسكري والمحافظ يسعون لاحتواء الأزمات ودفع الأطراف المتصارعة للجلوس في المجالس العرفية، لكن غير المفهوم هنا هو الدور المعاكس لذلك في سيناء حيث تعتبر الدولة تلك المجالس بمثابة مشكلة وبأنها وسيلة تقاضي بالتوازي مع المنظومة القضائية للدولة فتقوم باعتقال كل من ينظم مثل هكذا مجالس. هذا التناقض في تعامل النظام مع القبائل لا نجده فقط في المجالس العرفية بل وفي التمثيل النيابي وفي دخول أجهزة الدولة السيادية سواء الجيش أوالمخابرات العامة أو وزارة الخارجية والداخلية وهو كذلك بالنسبة للمؤسسات القضائية.
كذلك إذا نظرنا إلى سلوك النظام وخاصة مؤسسة الجيش تجاه قبائل سيناء التي تتمركز على طول حدود غزة وفلسطين المحتلة بالمقارنة مع القبائل الغربية التي تتمركز على طول خط الحدود الليبية والتي لها امتداداتها داخل ليبيا، نجد اختلافًا كبيرًا من حيث التعاطي مع كلٍّ منها، فنجد الجيش والمخابرات العامة تقوم بتوظيف القبائل الليبية في الصراع داخل ليبيا بينما في سيناء نجدها تقوم بتهميشها وإضعافها، وهذا في الحقيقة يرجع إلى نظرة النظام وتعريفه لمفهوم الأمن القومي وبالتباع تعريف العدو ثم يأتي بعد ذللك التهديدات وتحديد السياسات وآليات التعامل معها، فقبائل سيناء تمثل نقطة هامة في الأمن القومي المصري حيث تعتبر تلك القبائل خط الدفاع الأول أمام الكيان الصهيوني وتمتلك تلك القبائل قدرةً على جمع المعلومات ومعرفة جيدة بالموقع الجغرافي بخلاف امتداداتها داخل فلسطين المحتلة خاصة أن انتشار الجيش في سيناء يخضع لاتفاقية كامب ديفيد ولموافقة الكيان الصهيوني في حال رغبت مصر بإدخال آليات وقوات جديدة. كذلك فإن القبائل المتواجدة في المنطقة الغربية لها امتداداتها داخل ليبيا لكن تقوم أجهزة الدولة بالتعامل معها بسياسات مختلفة تماما بالمقارنة مع القبائل في سيناء.
أحد الإشكاليات التي تواجهها الدولة في التعاطي مع القبائل هو وجود هاجس بأنها لا تخضع له، فبعض الأفراد والمنتمين لتلك القبائل لا يملكون بطاقةَ إثباتِ شخصية أو جوازَ سفرٍ أو أوراقًا تدل على جنسيتهم، وهو ما يشكل إرباكًا للأجهزة الأمنية.
إن الأمور المستجدة في الأمن القومي المصري من تغير تعريف العدو، وترتيب الأولويات من خلال تصدير مفهوم “مكافحة الإرهاب” على حساب الكيان الصهيوني “إسرائيل”، بل أصبحت “إسرائيل” شريكًا في العمليات داخل الأراضي المصرية وبتنسيق مع الجانب المصري والمؤسسة العسكرية. ويعتبر ذلك تغيرا جذريا انعكس على العديد من الملفات وخاصة الأمور المتعلقة بشأن العسكري والعقيدة العسكرية والعقيدة القتالية وكذلك المجتمع.
وهذا ما يجعلنا نطرح العديد من الأسئلة حول الاستراتيجية التي يقوم بها النظام تجاه سكان سيناء، خاصة من تهجير الآلاف من مدينة رفح المصرية وهدم أحياء وقرى بأكملها، وتمثلت تلك الاستراتيجية فيما يعرف عسكريًّا باستراتيجية “الأرض المحروقة” وهي نفس الاستراتيجية التي تبنتها روسيا في العديد من حروبها بداية من الشيشان وحتى سوريا، حيث لا تعطي تلك الاستراتيجية أيَّ قيمة للمجتمع بل على النقيض تقوم بالتعامل مع المجتمع باعتباره “عدوًّا”، أنتجت تلك الاستراتيجية المنبثقة من التعريف الجديد للأمن القومي شعورا سلبيا من قِبَل قبائل سيناء تجاه الجيش، حيث صَنعت تلك الانتهاكات والمظلوميات الواسعة مناخًا دفع العديد من الشباب لتبني مسارات مضادة للدولة والجيش. وبالرغم من وجود كيان اتحاد قبائل سيناء الذي يتلقى دعمًا من قبل النظام وأجهزة الدولة إلا أن المشكلة في ذلك الكيان تتمثل فيمن يتزعمون ذلك الكيان ويديرونه، وما يتمتعون به من سمعة سيئة بين القبائل السيناوية والسكان، فقد شارك بعضٌ منهم في تجارة المخدرات وقتل بعضُهم ضباطَ شرطة، وبالرغم من تلك الملفات الإجرامية قام النظام بتوظيف هؤلاء لجمع المعلومات عن بعض المطلوبين بداية من عمليات 2004 في طابا التي كانت تستهدف بشكل رئيسي السياح “الإسرائيليين” وحتى الوضع الحالي.
وجهُ النقد هنا هو السياسة المتبعة، فلو قام النظام وأجهزته بالتنسيق مع القبائل وممثليها الحقيقيين لاستطاع حل العديد من المشكلات داخل سيناء وضبط الأمن الداخلي والمشكلات الحدودية ، بل إن ذلك التنسيق يمكن أن يمثل سلاحًا تجاه الكيان الصهيوني وهو ما ظهر جليًّا خلال حرب 6 أكتوبر، لكن للأسف على النقيض قام النظام بفرض مجموعة من تجار المخدرات وسيئي السمعة على رأس القبائل باعتبارهم الوجهة السياسية للقبائل، كل تلك الأمور والسياسات والعمليات العسكرية التي تمت خلال السنوات الماضية صَنَعَت حالة من الحياد عند القبائل في التعاطي مع الوضع القائم داخل سيناء، بل إنه تطور ليصبح دورًا سلبيًّا مناهضًا لأجهزة الدولة خاصة الجيش والشرطة، وذلك مع بداية اتخاذ الجيش نمط عمليات لا يراعي المجتمع وتكويانته ولا ينظر لها ولحجم الضرر الواقع عليها، وبالنظر إلى المشكلات داخل سيناء سنجد كذلك تهميشًا اقتصاديًّا قام به جهاز تنمية سيناء تجاه سكان وقبائل شمال سيناء وهو ما يمكن أن نلحظه في الفجوة الكبيرة بين شمال وجنوب سيناء، لذلك فالمشكلة داخل سيناء هي ليست المشكلة الظاهرة على السطح بل هي الجذور التي كبرت وتشعبت داخل سيناء.
في النهاية نحن نريد أن نشير إلى أن الدولة لا تعتبر القبائل كيانات معادية لها بل بالعكس قام النظام بتوظيف بعض القبائل سياسيا ومجتمعيا بخلاف بعض الملفات الخارجية، لكن تكمن المشكلة في تعريف النظام للأمن القومي، والسياسات الأمنية التي يتبناها مع القبائل، لذلك يجب أن تتغير النظرة الأمنية تجاه تلك القبائل ويتم حل المشكلات والتهميش السياسي والاقتصادي الذي عانت منه تلك القبائل من خلال سياسات جديدة في كافة المجالات خاصةً في التنمية وذلك لتعزيز المواطنة والمشاركة في تحمل المسؤولية والحد من التهديدات سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي في إطار يضع العدالة الانتقالية على رأس تلك السياسات لحل المشكلات المتراكمة من الانتهاكات التي مُورِسَت في حقهم.
المساعدات العسكرية الأمريكية إلى مصر