الإنتخابات التونسية و انعكاساتها على الداخل و الإقليم و ثورات الربيع العربي

اضغط لتحميل الملف

الإنتخابات ا الإنتخابات التونسية لتونسية

مقدمة

بانتخاب أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد رئيسًا للجمهورية التونسية لعهدةٍ تمتد إلى أكتوبر2024 ,صفحة جديدة تفتتحها الدولة والثورة في ذات الوقت. فالرئيس الجديد يخلف دستورياً وقانونيًّا الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي المتوفّى يوم 25 يوليو 2019 أي قبل ثلاثة أشهر من نهاية عهدته الرئاسية الأولى، ويخلف من الناحية الإجرائية القائم بمهام رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب السابق محمد الناصر، وكلاهما من مؤسسي حركة نداء تونس التي جعلت من الإنتماء للإرث البورقيبي جزءًا من هويّتها السياسية، فضلا عن أنّ الرئيس السابق والقائم بمهام الرئيس قد تقلّدا أعلى المناصب في دولة الإستقلال زمن الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. أمّا الرئيس الجديد ذو الواحد والستّين عامًا فلم يشتغل إلاّ في التدريس والبحث الأكاديمي ولم يكن جزءًا من “المنظومة القديمة” وامتداداتها وتمظهراتها سواء زمن سيادة ذلك “السيستام(الدولة العميقة لنظامي بورقيبة وبن علي)”[1] أو في عهد ثورة 17 ديسمبر 14 يناير التونسية منشأً والعربيّة أُفُقًا، بل كان أحد الناطقين غير الرسميين باسم الثورة وشبابها في الإعتصامات الكبرى ذات المطلبية الثورية والسياسية أو في وسائل الإعلام خاصة المرئية منها بشكل خاص. رئيسٌ وصفته وسائل إعلام محليّة ودولية بأنّه “رجل آلي” و ” جسمٌ طائر غير معروف الهويّة OVNI[2]” وبأنّه خارج المنظومة و محطّم “السيستام”. أوصاف تستمدّ شرعيّتها من الغموض الذي أحاط به سعيّد نفسه قبل الحملة وخلالها، لكنّها تعكس مخاوف بعضها داخلي من مراكز النفوذ السياسي والمالي والإعلامي، وبعضها خارجي مِمّن فوجئوا بصعود رئيس دولة في مهد الثورات العربية برنامجه -وليس شعاره – “الشعب يريد” وغايته إرجاع السيادة للشعب والدفاع عن استقلالية القرار ،أمّا التطبيع مع الكيان الصهيوني فهو خيانةً عظمى.

ثورة الصناديق قادها الشباب ذو الثمانية عشر عام

قفزَةٌ نوعيّة حقّقها الأستاذ قيّس سعيّد بين الدورين الأوّل والثاني من الإنتخابات الرئاسية حيث تضاعف عدد الأصوات التي تحصّل عليها بأكثر من أربع مرّات. ولإدراك دلالات هذه القفزة الموصوفة بثورة الصناديق، نشير إلى أنّه في الإنتخابات الرئاسية لسنة 2014 تحصّل الباحي قايد السبسي على مليون و350 ألف صوت في الدور الأوّل وعلى مليون و750 ألف صوت في الدور الثاني أي بزيادة 400 ألف صوت وهي نفس نسبة الزيادة لمنافسه محمد المنصف المرزوقي في الدور الثاني والذي نال مليون و450 ألف صوت. أمّا قيّس سعيّد فقد فاز في الدور الأوّل بالمرتبة الأولى بواقع 620 ألف و711 صوْتًا من جملة 3 ملايين و465 ألف و184 صوْتًا مصرّحٌ بها أي بنسبة 18,7 فقط من مجمل الأصوات، وفي الدور الثاني نال عدد 2 مليون و777 ألف و394 صوْتًا من جملة 3 ملايين و820 ألف و854 صوْتًا أي بنسبة 72,71 بالمائة.

الفارق بين الدورين بلغ أكثر من مليوني صوت، والفارق بينه وبين منافسه نبيل القروي الذي حصل على مليون و42 ألف 854 صوتا بلغ مليون و750 ألف صوت، أي أنّ الفارق بين المترشحين يساوي نفس عدد الأصوات التي تحصّل عليها الراحل الباجي قايد السبسي سنة 2014 عندما اصطفت وراءه جلّ القوى السياسية التونسية في تصويت مفيد (أي أن كل المترشحين يذهبون للتصويت لمرشح بعينه رغم ترشحهم في الانتخابات) لفائدة ماعُرف حينها أو بالأحرى ماعرّف نفسه بأنّه العائلة الوسطية الحداثية المنتصرة للإرث البورقيبي.

الطريقُ الملكيّة للإجابة عن سؤال من أين جاءت الأصوات في الدور الثاني تتمثّل في تحليل أرقام الهيئة العليا المستقّلة للإنتخابات وشركات سبر الآراء (تعداد الآراء) سواء عند استطلاعها لاتجاهات التصويت عند الخروج من مراكز الإقتراع أو عند نشر هيئة الإنتخابات للنتائج التفصيلية النهائية والرسمية وذلك بعد استيفاء جميع المراحل القانونية وآخرها الطعون لدى المحكمة الإدارية.

فارق الأصوات بين الدورتين يُفسّرُ بعاملين إثنين. العامل أوّل هو تصويت حوالي مليون شاب أعمارهم بين 18 سنة و25 سنة بما يمثّل 37 بالمائة من مجمل الأصوات التي تحصّل عليها سعيّد ومايُعادل كلّ الأصوات التي نالها منافسه. والملفت لانتباه السياسيين والمختصين في الدراسات السوسيولوجية وغيرها من تخصصات العلوم الإنسانية أنّ هؤلاء الشباب لم يصوّتوا في الدور الأول من الرئاسية ولم يصوّتوا كذلك في الانتخابات التشريعية التي انتظمت قبل أسبوع فقط من الدور الثاني للرئاسية. وهذه الموجة من تصويت الشبان الذي كانوا أطفالا عند اندلاع ثورة الحرية والكرامة سُميّت بالثورة التي أطاحت بمنظومة من خلال استعمال أدوات النظام وباحترام الدستور ومقتضيات القانون.

والعامل الثاني المُفسِّر لفارق الأصوات بين الدورتين هو دعم عدد كبير من الأحزاب ومن مرشحي الدور الأول لقيّس سعيّد في حين دعم القروي حزبان فقط أوّلهما حزب أمل تونس الذي تحصّلت رئيسته سلمى اللومي في الدور الأوّل على 0,2 بالمائة من الأصوات (5390 صوْتًا) وحزب آخر لا يُعـرف له نشاط واسمه تونس بيتنا. سعيّد حصل على دعم حركة النهضة بحوالي 600 ألف صوت وائتلاف الكرامة (ثوري محافظ) ب190 ألف صوت، والتيّار الديمقراطي (يسار إجتماعي وخطابه متمحور حول محاربة الفساد) ب167 ألف صوت، وحركة الشعب (حزب قومي مناصر للثورة) بحوالي 100 ألف صوت، وحزب الاتحاد الديمقراطي الإجتماعي الذي حصل رئيسه الدكتور لطفي المرايحي في الدور الأول من الرئاسية على 221 الف صوت، علما وأنّ سعيّد نال كذلك دعم حزبين من الجبهة الشعبية اليسارية وهما حزب الوطنيين الديمقراطيين والتيّار الشعبي.

ثورة الصناديق جعلت الإسلامي والقومي واليساري يجتمعون على دعم ذات المرشّح، بل الطريف حسب استطلاعات رأي شركات سبر الآراء هو أنّ حوالي ثلث الذين صوّتوا لعبير موسي رئيسة الحزب الحر الدستوري المفتخرة بانتمائها إلى المنظومة القديمة والممجدّة للرئيس الراحل زين العابدين بن علي والتي تعتبر الثورة مؤامرة وخيانة صوّتوا لقيّس سعيّد. 

فيس بوك من جديد.. حمـلةٌ تفسيرية بين التشبيك الإفتراضي وثوريّة الشباب

“لم يكن لديّ الضمان المالي لتقديم ملف ترشّحي (10 آلاف دينار تونسي اي ما يعادل ثلاثة آلاف و500 دولار أمريكي) فاضطررت للاقتراض، والتزكيات جمعها متطوّعون”، ” أنا لم أقم بحملة انتخابية ولادعائية، حملتي تفسيرية فقط”، ” ليس لي فريق حملة ولا إدارة”. جُمَلٌ كرّرها الأستاذ قيّس سعيّد بطريقة آلية وربّما روبوتية في المرّات القليلة التي ظهر فيها في وسائل الإعلام المرئية والسمعية خلال الحملة الإنتخابية التي التزم في جزء منها الصمت كخيار أخلاقي واحتراما لمبدئ تكافؤ الفرص (الأيام الخمسة الأولى من الدور الثاني الى حدود إطلاق سراح منافسه نبيل القروي من السجن). تلك التصريحات تكشف أحد العوامل الأساسية المساهمة في فوز الأستاذ سعيّد بكرسيّ الرئاسة لخمس سنوات. فالناخب التونسي وجد فيه صورةً متخيّلةً افتقدها في الطبقة السياسية سواء من السلطة أو المعارضة، وفضّله على منافسيه الذين كان من بينهم رئيس جمهورية سابق ( محمد المنصف المرزوقي) وثلاثة رؤساء للحكومة (يوسف الشاهد ومهدي جمعة وحمادي الجبالي) ورئيس برلمان بالنيابة (عبدالفتاح مورو) ووزراء في فترات متباينة تداولوا على وزارات الدفاع والعدل والتربية والسياحة والمالية والتشغيل والوظيفة العمومية ومكافحة الفساد (عبدالكريم الزبيدي وعبيد البريكي والياس فخفاخ وسلمى اللومي و سعيد العايدي وناجي جلول وعمر منصور ومحمد عبو) وقادة معارضة ( حمّة الهمامي ومنجي الرحوي وعبير موسي) وشخصيات مستقلّة (الصافي سعيد وسيف الدين مخلوف ولطفي المرايحي ومحمد النوري وحاتم بولبيار ). التونسي انتخب الصورة قبل الشخص، صورة الرجل المناصر للثورة منذ بداياتها والمنحاز إلى الشباب وتحرّكاته الثورية (اعتصامي القصبة 1و2) والزاهد في المناصب الحكومية (عُرضت عليه رئاسة الحكومة سنة 2013 فضلا عن عديد المناصب الوزارية). زُهْدٌ وجد المواطن ترجمته في حياته اليومية البسيطة والبعيدة عن البهرج والتصاقه بعموم الشعب في معايشة يومية في المقهى والسوق وفي مدارج الجامعة قبل أن يتقاعد السنة الفارطة (عمره الان 61 عامًا). بالإضافة إلى ما ترسّخ في الأذهان من تصريحات إعلامية غدت مقولات وعناصر خطاب لدى شرائح واسعة من الشعب على غرار ” إمّا أنّ الإرهاب من الدولة أو أنّه أقوى من الدولة ” أو ” الدستور أكله الحمار” أو ” على الجميع مغادرة المشهد من سلطة ومعارضة“.

العنصر الثاني الحاسم في فوزه هو التفاف الشباب حوله وتعويض صمته إعلاميًّا وعزوفه عن تنظيم اللقاءات الجماهيرية الإستعراضية والمؤتمرات الصحفية والحوارات الإعلامية بحملةٍ قادها الشباب المتعلّم والثوري لفائدته في الفضاء الإفتراضي (90 بالمائة من ذوي المستوى التعليمي الجامعي صوّتوا لسعيد في الدور الثاني في حين أغلب الأميين وذوي المستوى التعليمي الإبتدائي صوّتوا لمنافسه). غزو الشباب لوسائط التواصل الإجتماعي الإفتراضية وللفيسبوك أساسًا ابتداءً من المجموعات المغلقة والسرّية ثم الظهور الى السطح في صفحات حصدت مئات آلاف المعجبين في أيّام معدودة جعلت بعض المثقفين الذين عجزوا عن تفسير الظاهرة أو ممن فوجئوا بها يتحدثون عن مؤامرة دولية شبيهة بما يُتداول عن التدّخل الروسي لدعم المترشح حينها دونالد ترامب وهو مايُعرف بفضيحة “كامبريدج أناليتيكا”. لكن للظاهرة تفسيرا أعمق يتمثّل في أنّ الحملة الإنتخابية الرئاسية لقيس سعيّد في الفضاء الإفتراضي هي حصيلة حملات مواطنيّة وثورية فيسبوكية امتدّت طوال سنوات منذ اندلاع الثورة على غرار ” وينو البترول؟” (أين البترول أين ثرواتنا الباطنية؟) و ” حِلّ الدوسي” (افتح الملف) و “مانيش مسامح” (لن أسامح وذلك في علاقة بقانون المصالحة مع رموز الفساد المالي والسياسي في نظام ماقبل الثورة) وغيرها من الحملات.

مجمل هذه المجموعات الإفتراضية انخرطت عبر آليات التشبيك التي يتيحها الفيسبوك لتتحوّل سلاحًا لقيّس سعيد ضد المنظومة بأذرعها الإعلامية والمالية والعلائقية، ونجحت في هزم كلّ المؤسسات الإعلامية المرئية والسمعية والإلكترونية التي اصطفت في الأغلب الأعم مع مرشحين من قلب السيستام بمن في ذلك المترشح نبيل القروي مالك قناة نسمة التي انطلقت في الحملة لفائدته منذ ثلاث سنوات. 

القروي عمل خيري وقناة دعائية في مهبّ الشبهات 

المتنافس الثاني على كرسيّ الرئاسة نبيل القروي لم ينهزم فقط أمام ثورة الصناديق بل هزم نفسه لأنّه دخل السباق الإنتخابي مُثقلا بالإتهامات التي قادته قبيل انطلاق الحملة إلى السجن الذي لم يغادره إلاّ 48 ساعة تقريبا قبل الصمت الإنتخابي للدور الثاني. القروي حصد في الدور الأوّل 525 ألف 517 صوْتًا ونجح في إضافة نصف مليون صوت في الدور الثاني ليبلغ مليون و42 ألف و854 صوتا أي بنسبة 27,29. نسبةُ وُصفت بالهزيلة أمام تسونامي الأصوات لسعيّد مما جعل البعض يتحدّث عن استفتاء وليس انتخابات.

هزيمةُ القروي في أحد وجوهها هي هزيمة للسيستام. فالقروي أحد أهمّ مؤسسي حزب نداء تونس الفائز بالانتخابات التشريعية لسنة 2014 والفائز رئيسه الباحي قائد السبسي بالرئاسة، بل هو صانع الصورة التسويقية للرئيس من خلال قناته نسمة وشركة الإتّصال التي يملكها. القروي ليس مجرّد مترشّح عادي بل هو أحد صانعي السيستام سابقا، وفي انتخابات 2019 يُعتبر رمز التوجُّه العامل على تجديد هذا السيستام. ورغم امتلاكه لذراع إعلامي واتصالي (قناة نسمة) يتصدّر نسب المشاهدة وإشرافه على جمعية خيرية باسم ابنه المتوفي في حادث مرور قبل ثلاث سنوات (جمعية خليل) مكّنته من تقديم المساعدات السخية في كلّ شبر من الجمهورية التونسية وأكسبته شعبية جارفة لدى الأوساط الهشّة إجتماعيّا، فإنّه لم يتمّكن من الصمود أمام ثورة الصناديق. 

مُجدّد السيستام وابن المنظومة انهزم لأسباب عديدة سنكتفي باثنين منها:

السبب الأوّل شبهات الفساد التي لاحقته منذ سبتمبر 2016 تاريخ تقديم منظمة ” أنا يقظ” الشبابية والناشطة في مجال الشفافية ومكافحة الفساد للقطب القضائي المختص في الفساد المالي موضوعها تبييض الأموال والتهرّب الجبائي والتحيّل الضريبي. ملف الشكوى يتضمّن 700 وثيقة تدور حول التهرّب الجبائي وتحويل أموال للخارج لفائدة شركاته الخاصة وإقراض نفسه لتبييض الأموال وعدم سداد مستحقات الدولة (بنك عمومي وإدارة جباية ومؤسسة الإرسال التلفزي). وكان أوّل القرارات القضائية تجميد أمواله وأموال شقيقه ومنعهما من السفر. 

القروي ومحاموه اتهموا رئيس الحكومة يوسف الشاهد باستعمال القضاء لإقصائه، حسب تصريحاتهم، من دائرة المنافسة على الرئاسة. ووجد محامو القروي وقادة حزبه (قلب تونس) ما يعضد اتهامهم، وذلك عند اتخاذ دائرة الإتهام قرار إيقافه وتنفيذ الشرطة لبطاقة الجلب في سويعات وتحديدا يوم 23 أغسطس أي قبل أسبوع من انطلاق الحملة الإنتخابية وهي سابقة قضائية وأمنية (لم يصدر عن القضاء التونسي في ماعدا هذه الحالة أيّ قرار بالترفيع في العقوبة عندما يعترض متّهم على عقوبة دنيا ، وهنا تمت إضافة الإيقاف للتجميد ومنع السفر). خروج القروي من السجن كان كذلك بسابقة قضائية حيث أطلقته محكمة التعقيب (أعلى درجة للتقاضي وهي محكمة قانون) برفضها قرار دائرة الاتهام الأولى دون أن تحيل إليها الملف مجدّدًا. قرارٌ اعـتُبِر استجابة لضغوطات داخلية وخارجية وذلك حتى لا يتم الطعن في الإنتخابات الرئاسية لعدم توفّر عنصر تكافؤ الفرص، علما وأنّ سعيّد أوقف حملته بحجة الدافع الأخلاقي لكن في الحقيقة القرار جاء لسحب البساط من تحت أقدام من يروم الطعن عند الخسارة. 

السبب الثاني للهزيمة كانت الكشف عن عقد أُبـرم لفائدة القروي مع شركة علاقات عامة (لوبيينغ) يرأسها الصهيوني والعميل السابق للموساد آري بن ميناشي. العقد تمّ نشره في الموقع الرسمي لوزارة العدل الأمريكية. وأكّد مالك المؤسسة صحته وأنّ تلقى دفعةً من مجمل قيمة العقد (مليون دولار أمريكي) من حساب زوجة القروي المفتوح بإمارة دبي الإماراتية.

زوجة القروي نفت صحة العقد وأكدت أنها لا تعرف صاحب الشركة، في حين اعترف القروي بأنه التقى المعني لكنه لم يكن يعلم بانتمائه الصهيوني، كما صرّح بأنّه لم يتعاقد معه كما جاء في العقد المنشور من أجل مساعدته للفوز بمنصب الرئيس والتمهيد لعقد لقاء مع كلّ من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فضيحةً ساهمت في تدعيم صورة قيس سعيّد واهتزاز صورة القروي. وتدعّمت الوجهة التنازلية للقروي خلال المناظرة التلفزيونية بين المترشحين طيلة ساعتين ونصف كان خلالهما سعيّد نجما وأستاذًا في حين بدا القروي تلميذا لم يُعدُّ جيدا للإمتحان، فهو رجل الاتصال الذي صنع الزعامات وفشل في صقل صورته بالإضافة إلى أنّه حمل معه إلى الأستوديو أثقال الاتهامات بالفساد المالي والتعاقد مع صهيوني.  

النموذج التفسيري، ضد السيستام وليس ثورة مضادة

الرئيس قيّس سعيّد هزم رئيسًا سابقًا ورؤساء حكومات ورئيس برلمان ووزراء وزعماء معارضة في الدور الأوّل، وفي الدور الثاني هزم من شارك في صناعة سيستام أو منظومة النداء لسنة 2014 ومُجدّدها سنة 2019. وبذلك هزم سعيّد “السيستام”. والسيستام أو المنظومة ليس بالضرورة كلّ الأطراف المساهمة في العملية السياسية سواء من كانوا في الحكم أو المعارضة (بالرغم من أنّه هزمها جميعا) ، بل هو سرديّة سياسية أو بنيّة قيمية وفكرية ومؤسساتية تُعلن انتماءها للثورة ودستورها لكن عمقها المالي والإعلامي والمصلحي والجهوي يمتدّ بجذوره إلى دولة الإستقلال في عهدي بورقيبة وبن علي. 

ففي تونس من الصعب الحديث عن تنافس بين ثورة وثورة مضادة ماعدا في حالة الحزب الدستوري الحرّ (عبير موسي)، أمّا باقي الطيف السياسي فيضع نفسه تحت سقف الثورة ودستورها على الأقّل خطابًا وقوْلاً بغض النظر عن تقييم الثورة والرغبة في تغيير الدستور لعدم النجاعة وتغيير نظام الحكم من برلماني معدّل إلى رئاسي وليس من أجل الإرتداد على المكتسبات التي تضمّنها الدستور (المحكمة الدستورية، الهيئات الدستورية، الحريات الفردية والعامة، والحقوق الإقتصادية والإجتماعية) . 

مقولة الثورة المضادة كبراديغم تفسيري في حاجة أكيدة لتدقيق النظر فيه من أجل استعماله بطريقة علمية. صحيح أنّه يوجد لدى البعض حنين لعهد ماقبل الثورة لكنه من الناحية السياسية حنين مكبوت وغير معلن إلاّ في حالة يتيمة، وباقي الطيف السياسي متمسّك بالثورة ومكتسباتها لكنّ الإختلاف يدور حول سرعة الإنجاز وطبيعة النظام والتفاوت بين المنجز السياسي والإخفاقات الإقتصادية والإجتماعية. مع الإشارة إلى أنّ الدعوة إلى تغيير النظام السياسي الذي أقرّه دستور يناير 2014 أي دستور الثورة يشترك فيها بعض الذين دخلوا تحت سقف الثورة بغض النظر عن إيمانهم العميق بها مع المؤمنين بالثورة والمنتصرين لها. فالرئيس قيّس سعيّد ذاته والشباب الثوري الذي يدعمه يدعون إلى تغيير النظام السياسي ضمن تصوّر أثار جدلا كبيرا في تونس ولايزال. 

النهضة انتصرت في التشريعية لكنّها لم تفُز…

الإنتخابات الرئاسية في تونس لم تُحرج “المنظومة القديمة ” فقط، بل أحرجت كذلك القوّة السياسية الأهمّ والأكبر في تونس منذ الثورة (فازت في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وشاركت في جلّ الحكومات وصاحبة أكبر عدد من المقاعد البرلمانية في مجلس النواب المتخلّي بعد تفتّت كتلة نداء تونس). حركة النهضة التونسية دعمت الأستاذ قيس سعيّد خلال الدور الثاني من الرئاسيات، وهو موقف منتظر لأسباب متعدّدة أبرزها داخليّة إذ أنّ بعض قواعد النهضة انحازت إلى عدد من المرشحين الذين اعتبروا أنفسهم ممثّلين للثورة في الدور الأوّل على غرار قيس سعيد والمنصف المرزوقي وسيف الدين مخلوف وحمادي الجبالي. بالإضافة إلى “الحرب الباردة” حينا والمعلنة أحيانا مع صديق الأمس نبيل القروي والنأي بنفسها عنه بعد اتهامه قضائيا بالفساد. والعامل الأهم وعي النهضة بأنّ خيارها في الرئاسية سيؤثّر حتما وبالضرورة على التشريعية التي انتظمت بين دوْري الرئاسية. 

وقد حقّقت النهضة أهدافها المعلنة بالانتصار في الانتخابات التشريعية (52 مقعدا من أصل 217 مع الحصول على 560 ألف صوت، أي بفارق 14 مقعدا و 150 ألف صوت عن الحزب الثاني “قلب تونس”)، علاوة عن انتصار المرشّح الذي دعمته في الدور الثاني من الرئاسية. لكنّ الحصول على المرتبة الأولى في التشريعية التي تؤهّلها نظريًّا لتشكيل الحكومة وترؤُّس البرلمان وضعها في موقع قَلِقٍ لضعف الحصيلة والاضطرار لعقد تحالفات لاتبدو يسيرة المنال ممّا سيجعلها تدخل مارثون مفاوضات وتنازلات حتى لا يلجأ رئيس الجمهورية الجديد لحلّ البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة.

الوجه الثاني للإحراج يتمثّل في فشل حركة النهضة في ايصال مرشّحها عبد الفتاح مورو إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، حيث اكتفى بالمرتبة الثالثة ب434  ألف 530 صوْتًا أي أدنى من أصوات النهضة في التشريعية ب130 ألف صوت. فأصوات النهضة في التشريعية كانت قادرة على ايصال مورو إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية (القروي حصل في الدور الأوّل على 525 ألف صوت)، وهذا مؤشّر على إشكاليات داخل النهضة ذاتها. 

مؤشّرات تذبذب القرار النهضوي متعدّدة أوّلها الإتّجاه عن البحث عن مرشّح توافقي من خارجها وهو ما اتُّفق على تسميته بالعصفور النادر، وخلفية هذا البحث عن مرشح توافقي خارجي نجده في قراءة قيادات النهضة للمشهد الإقليمي والدولي المناهض لتصدّر الإسلاميين سدّة الحكم. أمّا ثاني المؤشّرات فهي انعقاد مجلس شورى النهضة في دورتين للحسم في طبيعة المرشّح هل يكون من الداخل أو الخارج. وقد جاء الحسم بشكل متأخّر وشهد تراخيًا في تنفيذه، والدليل التراخي في تشكيل حملة عبد الفتاح مورو إلى أيّام قليلة قبيل انطلاقها، إضافة الى مواقف بعض قيادات الصف الأوّل من النهضة سواءً المشكّكة في سلامة الإختيار أو الموحية بأنّ اختيار الأستاذ عبد الفتاح مورو كان خيارا للمناورة فقط…

حركة النهضة لم تدفع في الدور الأوّل من الرئاسيات كُلفة تردّدها فقط، بل دفعت فاتورة التوافق مع رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي ومع حزب نداء تونس في مرحلة أولى ثم مع حزب تحيا تونس الذي يتزّعمه رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي انشق عن النداء و “شقّ عصا الطاعة” عن زعيمه الروحي الباحي قايد السبسي. فالسنوات الخمس للتوافق لم يجن فيها الشعب التونسي أيّ ثمار اقتصادية أو اجتماعية تجعله يثق في أنّ ترجمة الحقوق الإقتصادية والإجتماعية الثورية والمدسترة إلى واقع أمر قريب المنال. كما أنّ مسايرة النهضة الجزئية للرئيس الباجي قايد السبسي في مشروع قانون المصالحة الإقتصادية الذي ينص على العفو عن بعض أوجه الفساد الإداري لغير المنتفعين منه (الإداريون) جعل النهضة في أعين المتابعين مُطبُّعةً مع الفساد وفي الحدّ الأدنى متعايشة معه.

تهرئة النهضة وصورتها باعتبارها جزءا من قوى الثورة والنظر إليها كجزء من المنظومة سواء بسبب الانخراط في سياسة التوافق أو الاضطرار لتقديم التنازلات، اعتبرته قياداتها ثمنا منتظرا لخيار قوامه ضرورة التطبيع مع الحكم والتعايش مع قوى المنظومة القديمة حفظًا للبلاد من مخاطر الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي. وقد تمكّنت النهضة من استرجاع جزء من رصيدها الشعبي عندما رفضت مشروع قانون المساواة في الميراث بين المرأة والرجل الذي قدّمه الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي. فالانتخابات التشريعية في المقام الأوّل ونتائج الرئاسية في دورها الثاني تُعدّان فُرْصة جديدة منحها الشعب التونسي لحركة النهضة لاختبارها في مشهد سياسي وحزبي هو أقرب إلى روح الثورة، ولكنّه اختبار تحت مجهر قوى خارجية لم تنتصر للربيع العربي ولم تخف سعيها لإجهاضه.


الإنتخابات التونسية والمؤثرات الإقليمية والدولية 
 

إنّ إيلاء الوضع في الدول الجارة أهميّةً خاصة أو استقراء المواقف الإقليمية والدولية عند تشكيل القرار الحزبي ليس خاصيّة نهضوية بل هو من صميم طبيعة القرار السياسي المتأثّر حتما بالعوامل الخارجية سلبًا أو إيجابًا. والإنتخابات الرئاسية التونسية التي فاز بها الأستاذ قيّس سعيد لم تكن استثناءً من حيث الإهتمام كسقف أدنى، أمّا محاولة التأثير فيمكن رصده من خلال القرائن دون الأدلّة، لكن المؤكّد أنّ التأثير في خيارات الشعب -إنْ وُجد- فقد كان مآله الفشل والدليل نتائج الانتخابات ذاتها.

لقد حازت الانتخابات التونسية بتغطية هامة بل يمكن وصفها بالإستثنائية من وسائل الإعلام العربية والغربية خاصة الدول ذات النزعة المناهضة للربيع العربي بعضها تصريحا والبعض الآخر بطريقة غير مباشرة. فمنذ مرحلة تقديم الترشّحات رصدنا انحيازا من بعض المواقع الالكترونية والصحف الورقية العربية وبعض القنوات المصرية وكذلك الممولة خليجياً من المحور المناهض للثورات لمرشحين بعينهم وتحديدا وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي وبدرجة أقلّ مرشحة الحزب الدستوري الحر عبير موسي ومرشّح حزب البديل مهدي جمعة، في مقابل حملات تشويه تحت غطاء النقد لمرشّح النهضة الأستاذ عبد الفتاح مورو ولكل المرشحين الذين يعلنون دفاعهم عن قيم الثورة. 

والخط التحريري لمؤسسات إعلامية مرتهنة في قرارها وفي تمويلها لدول بعينها يعكس سعي الممولين للتأثير على مجريات الانتخابات. لكن هذه المساعي باءت بالفشل لأكثر من سبب سأكتفي بواحد فقط وهو مؤسساتي وقانوني. فالقانون المنظم للانتخابات والإجراءات ذات الصلة بتغطية وسائل الإعلام للحملة تمنع على المترشحين الإدلاء بحوارات للقنوات التلفزيونية والإذاعية الأجنبية وهو مايجعل المواطن التونسي متّجها بكليّته لوسائل الإعلام المحلّية ويقلّص إلى الحدود الدنيا قدرة وسائل الإعلام الأجنبية على التأثير. التأثير الخارجي في مجريات الإنتخابات يكون بفتح بوّابة التمويل لفائدة المترشّحين، لكن إشراف هيئة عليا مستقلة على كامل العملية الانتخابية وضبط سقف للإنفاق (550 ألف دولار) ومراقبة محكمة المحاسبات للإنفاق خلال الحملة جعل مجال التدخل المالي ضيقا، علما وأنّ تجاوز السقف المالي للإنفاق بنسبة معلومة عقوبته إلغاء نتائج المترشّح مرتكب الجريمة الانتخابية، دون أن نغفل عن أنّ التمويل الأجنبي ولو بدولار يُعدُّ جريمة موجبة لإسقاط الترشّح. 

وبعد أن كشفت الصناديق عن أسرارها وفاز الأستاذ قيّس سعيّد المناصر للثورة بل يمكن اعتباره أحد الفاعلين فيها ومن ثمارها، فإنّ الأولوية تصبح لقراءة مواقف الدول الجارة وكذلك المهتمة بتونس من توجهّاته ومواقفه. قيّس سعيّد لم يكن المرشّح المفضّل لدى المحور المناهض للربيع العربي ،ولم يكن المرشّح المثالي للدول الغربية لعدّة أسباب أهمّها دفاعه عن استقلالية القرار الوطني وحرصه على أن يستفيد التونسيون من ثرواتهم بالإضافة إلى اعتباره القضية الفلسطينية أولوية مطلقة وأنّ التطبيع جريمة وخيانة عظمى، علاوة عن رغبته في أن تخرج تونس من موقف الحياد السلبي في الملف الليبي في اتجاه توفير أرضية لحلّ النزاع بين الفرقاء الليبيين داخليا وبإسناد تونسي، خاصة وأنّ تونس ستكون عضوا غير قار بمجلس الأمن الدولي ابتداءً من شهر جانفي المقبل.

مواقف ينضاف إليها رفضه للمثلية الجنسية في الفضاء العمومي ومعارضته للمساواة في الميراث مستندا على النص القرآني. وإذا علمنا أنّ الدستور التونسي يعطي لرئيس الجمهورية صلاحية ضبط السياسات الخارجية وتعيين وزير الخارجية بالتشاور مع رئيس الحكومة، نُدرك أنّ تنفيذ سعيّد رؤيته السياسية لن يكون بالأمر اليسير أمام قوًى بوصلتها تسير في الاتجاه المعاكس.

سعيّد رئيس لمجلس الأمن القومي دون سند سياسي مباشر 

رئيس الجمهورية التونسية هو بنصّ الدستور رمز الدولة ووحدتها وأحد فرعيْ السلطة التنفيذية، ويضبط الرئيس حسب الفصل 77 من الدستور السياسات في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي، ويتولّى رئاسة مجلس الأمن القومي ويتولّى القيادة العليا للقوات المسلّحة، أي أنه المُكلّف دستوريا وقانونيا بالتعيينات للقيادات العسكرية العليا في حين يتكفّل رئيس الحكومة بتعيين القيادات الأمنية. 

فمن حيث الصلاحيات الدستورية، للرئيس صلاحيات كبرى من الناحية الأمنية والدفاعية، خاصة وأنّه رئيس مجلس الأمن القومي الذي يتكوّن من الرئاسات الثلاث (جمهورية، حكومة، برلمان) ووزراء الدفاع والداخلية والعدل والمالية والقيادات الأمنية والعسكرية. وإذا أخذنا بعين الإعتبار توسيع الراحل الباحي قايد السبسي لمفهوم الأمن حيث اعتبره شاملا، فإنّ للرئيس الجديد آليات دستورية ومؤسساتية لضمان الإستقرار الأمني بمعناه الشامل وإعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب الذي مايزال فاعلا في الجبال الغربية التونسية فضلا عن المخاطر المحتملة من بعض دول الجوار.  

مآلات الوضع الراهن

في تونس لايمكن الحديث عن انقلابات بالمعنى التقليدي، لأسباب ذات صلة بطبيعة الجيش التونسي ودوره وتاريخه، وللحصانة التي اكتسبها الشعب التونسي وترسّخ المسار الديمقراطي بما يجعل الإرتداد إلى عهود الاستبداد صعب.

إنّ المخاطر الحقيقة التي قد تهدّد خماسية قيس سعيد هي أوّلاً احتمالات عدم الاستقرار السياسي نظرا لتشتت المشهد البرلماني والحزبي، ثانيًا التصادم المحتمل بين مساندي مشروع الرئيس من الشباب الثوري المؤمنين بتغيير النظام السياسي أي الانتقال من الديمقراطية التمثيلية إلى نظام جديد من التمثيل المباشر وبين القوى السياسية التقليدية التي يُفترض أن تكون سنداً للرئيس في حين أنها اليوم مع الرئيس كصورة وضدّه كمشروع. أمّا ثالث المخاطر فهي عدم الاستقرار الإجتماعي إذا لم يتحسّن الأداء الاقتصادي ولم يتم إيقاف تدهور المقدرة الشرائية. ويتمثّل رابع المخاطر في إمكانية إصرار الرئيس على تنفيذ وعده بأنّه لن يُغيّر نسق حياته وأنّه سيحافظ على مقر سكناه ولن يقطن القصر الرئاسي، بل سيؤدي عمله ثم يعود إلى منزله. وعدٌ انتخابي قادر على استقطاب أصوات الناخبين، لكن خلال العهدة الرئيسية يُعتبر المرور من الوعد إلى التنفيذ فتحًا لبوّابة المخاطر التي قد يستغلّها المتربّصون بتونس مِمّن يسوؤهم النموذج الثوري-الديمقراطي التونسي، فيعملون على محاولة فرملته باستهداف أحد أيقوناته سواء مباشرة أو عبر وكلائهم.


المراجع

[1] يقصد بها فى اللهجة التونسية الدولة العميقة لنظامي بن على وبورقيبة

[2] كلمة فرنسية تعني جسم طائر

اضغط لتحميل الملف