يحظى شهر ديسمبر في الاجتماع السياسي المصري بخصوصيّة. إذ هو أحد الشهور الباردة من جهة الطقس، ما يعدّ متغيِّرًا يحدّ نسبيًّا من الحركة، ويحدِّد أنماطًا معيِّنة من التفاعل، لا سيما في الاستهلاك والاقتصاد، بل وحتى السِّياسة.
كما أنّه يعدّ شهرًا ختاميًّا في مسيرة النظام الدراسي بمختلف مراحله، حيث يوشك النصف الدراسي الأوَّل على الانتهاء، والامتحانات تكون على الأبواب، مع العلم أنَّ عدد طلّاب المدارس والجامعات يفوق 30 مليون طالب، وهي قوَّة بشريَّة تفوق التعداد السكاني لكثير من الدول.
وبطبيعة الحال، يستقبل المصريّون، كغيرهم، بداية عام ميلاديٍّ جديد، بما يتقاطع مع أعياد الطائفة المسيحيَّة الشرقيَّة، ويودِّعون عامًا ميلاديًّا مضى. وقد لوحظ في هذا الصدد تصميمُ الجداول الامتحانيَّة وعطلات نصف العام، لا بما يراعي الأعيادَ المسيحيَّة فقط؛ وإنما بما يتحاشى وجود الكتلة الطلّابيّة في الشارع خلال ذكرى يناير؛ فالامتحانات -بحسب معظم الجداول- تنتهي قبل 25 من يناير، ليبدأ النصف الثاني في الأسبوع الثاني من فبراير. وبناء عليه في هذا السرد المركَّز، نضع أيدينا على أبرز ما وقع بمصر، من منظور الاجتماع السياسي خلال ديسمبر الماضي.
ثورة السوريين تكشف هشاشة النظام
فيما لا يزيد عن أسبوعين، استطاع السوريّون الزحفَ من جيب إدلب الواقع شمالًا على الحدود مع تركيا، حيث ضيق المساحة والحصار، إلى دمشق جنوبًا، حيث عبروا في طريقهم حماة وحمص وحلب، ووصلوا إلى الساحل السوريِّ غربًا، معقل الطائفة المهيمنة على الحكم البائد. ورغم وهج الاحتفالات والمفاجأة، سرعان ما بدأوا في مسار بناء الدولة وصياغة دولة ما بعد سقوط آل الأسد. حكومة جديدة، بمفردات جديدة، ووجوه جديدة، وخطاب به الحد الأدنى من الرشاد والعقلانيَّة، بما لا يخلو من جاذبيَّة وإلهام.
وفي ظلِّ ذلك الزخم، أبدى النظام المصريّ في المقابل ذعرًا ملحوظًا من تطورات الأوضاع وتسارعها في سوريا. اجتماعات رئاسية وعسكرية وأمنية عالية المستوى. وخطاب من السيسي عن “عدم الخوف” يكشف عن الخوف أكثر مما ينفيه، وهيستيريا في الإعلام الرسمي تشنيعًا وتحذيرًا من سوريا ما بعد الأسد.
وعلى أرض الواقع، تُرجمَ هذا الهلع إلى اعتقالات وتدابير أمنيَّة جِذريَّة بحق السوريين المحتفلين بسقوط الأسد. وقرار سياديّ بعدم استقبال سوريين -إلا بموافقة أمنيَّة- بغض النظر عن البلد القادمين منه، واعتقال ما لا يقلّ عن 30 شخصًا شاركوا في احتفالات محدودة بسقوط النظام.
يوضح الموقفَ الرسمي المصريّ شديد التحفظ على أحداث الشام تغريدة من النائب البرلماني محمود بدر على تويتر يقول فيها إنَّ مشاهد احتفالات السوريين الموجودين في مصر بسقوط الأسد هي “من أسوأ ما رأى في حياته”، وأنَّ على السلطات “حبس وترحيل المشاركين فيها فورًا”.
زئير النقابات
لقد كان ديسمبر دون مبالغة شهر النقابات. فقد شهد تحرّكات بسيطة متزامنة تبرهن عن حتميَّة العلاقة بين قوَّة المجتمع وحيويّته وبين وجود نقابات مهنيَّة وطوائف عمَّاليَّة تدافع عن حقوق منتسبيها ضمن جدليَّة تؤول عادةً إلى علاقات مستقرَّة ومتوازنة بينها وبين السلطة ورأس المال.
ففي المؤتمر العام السادس لنقابة الصحافيين، منتصف ديسمبر، وعلى مدار أيام، نوقشت أوضاع المهنة وأحوال أعضاء النقابة، وفرص تحسين ظروف الصحفيين اجتماعيًّا، بما يساعدهم على أداء دورهم الأخلاقي في التعبير عن صوت الناس. ومن ضمن التوصيات التي قدمها النقيب خالد البلشي ضرورة رفع العوائق عن تأسيس الصحف، والحدّ من استخدام سلاح الحجب في وجه وسائل النشر المعارضة.
كما اتحدت في مشهد نادر في الحقبة السياسية الحالية عدة نقابات، تشمل الصحافيين والمهندسين والمحامين، لإعلان وقف التعامل مع عدد من العلامات التجاريَّة البارزة في مجال التحاليل والفحوصات الطبيَّة، نظرًا للمغالاة في أسعار الخدمات المقدمة لمنتسبي تلك النقابات، والممارسات الاحتكاريَّة، والتفاوت الكبير في أسعار نفس الخدمات، بحسب صلة متلقي الخدمة بهذه المعامل.
اللافت هنا لم يكن اصطفاف النقابات وحسب، وإنما تعبيرهم عن رفض الاحتكار، الذي يتمّ عادة بناء على ضوء أخضر من الجهات السياديّة، وصولًا إلى اصطدامهم مع المصالح الإماراتيّة في مصر، حيث تستحوذ مجموعة «أبراج كابيتال» الإماراتية على حصص في علامات البرج والمختبر الّذين وردا في البيان.
وليست هذه المرَّة الأولى خلال فترة وجيزة نسبيًّا التي تكشر فيها النقابات عن أنيابها في وجه السلطة، فقد سبق أن زحف المحامون إلى مطروح، وتجمهروا في وسط البلد، احتجاجًا على ما اعتبروه سوءًا للمعاملة وإهانة للمهنة من جانب جهات سياديّة في البلاد.
كما لا تزال عالقة في الذاكرة معركة انتخاب خالد البلشي نقيبًا للصحافيين في وجه مرشحي السلطة، فضلًا عن محاولات الفريق كامل الوزير ترقيع واحتواء أزمة اقتحام بلطجية تابعين للنظام أروقة نقابة المهندسين وإفساد انتخاباتها.
ولم يمنع تكتل النقابات الثلاث ضد تعسف تلك المعامل في سعر الخدمات وانحيازها للأطباء، نفس النقابات التي أصدرت البيان، من الوقوف مع الأطباء في معركة “قانون المسؤولية الطبية”، فقد أصدر البلشي نقيب الصحافيين، والنبراوي نقيب المهندسين، بيانات دعم لنقابة الأطباء، داعينَ إلى الاستماع لصوت ممارسي المهنة، وعدم جواز وضعهم في معركة ضد المواطنين.
لقد صعدت نقابة الأطباء ثورتها على قانون المسؤولية الطبية، في صيغته الأولى، بسبب تسويغه الحبس الاحتياطي لمقدمي الخدمة، وفتح الباب أمام ابتزاز الأطباء ماديًّا ومعنويًّا من قبل بعض متلقي الخدمة، وصولًا إلى استقالة عدد من أعضاء مجلس النقابة، احتجاجًا على إلغاء النقيب للجمعية العمومية الطارئة دون تنسيق مع كامل المجلس، وهو ما اعتبرته أصوات بارزة مثل منى مينا “استهتارًا بإرادة الأطباء ومجلس النقابة”.
صوت العمال والأهالي لم يغب
بالرغم من العواقب التي ترافق احتجاجات عمال القطاع الخاص على أوضاعهم المهنية عادة، حيث يتدخل الأمن الوطني إذا كان صاحب الأعمال نافذًا، لقمع العمال وترهيبهم، خاصة لو أصرَّ العمال على الاعتصام والإضراب وتعطيل العمل؛ فإنَّ حراكًا ملحوظًا شهده ديسمبر من جانب العمَّال.
فقد احتجّ مطلع ديسمبر عمال شركة «تي أند سي» على حزمة من الانتهاكات المهنية التي تعرَّضوا لها، من أبرزها إلغاء منحة الأعياد، وخفض الأرباح السنوية، وإلغاء الوجبة، وخصم أيام من رصيد العطلات، وعدم حساب بعض أيام العمل في العطلات الرسمية.
كما أضرب لساعات، عمال إحدى شركات خدمات الركاب في مطار القاهرة، وتدعى “زيد”، نظرًا لتردي أوضاعهم الاجتماعية، وإجبارهم على دفع إتاوات، ودفعهم للتسول من الركاب في محاولة من الشركة للتنصل من التزاماتها القانونية والأخلاقية تجاه العمال البسطاء في تحميل الحقائب.
وعلى غرار أزمة المقاول محمد علي 2019، مع الفارق؛ تجمهر عدد من مقاولي الباطن أمام فرع شركة المقاولين العرب في منطقة القناة، مطالبين الفرع بدفع مستحقاتهم المتأخرة، والتي تصل إلى 100 مليون جنيه مقسَّمة بنسب متفاوتة على نحو 80 مقاولًا من الباطن.
وفي مشهد بات متكررًا للمجموعة العقارية العملاقة، دخل عدد من العمال في شركة هشام طلعت مصطفى في العلمين الجديدة إضرابًا عن العمل، اعتراضًا على الأوضاع غير الآدمية التي يعملون فيها، حيث يضطرون إلى المواظبة 23 يومًا متواصلًا من أجل الحصول على 7 أيام عطلة، والعمل 12 ساعة يوميًّا، والتكدس بما يصل إلى 24 شخصًا في الغرفة الواحدة، مع عدم تقاضيهم مرتبات منذ يوليو الماضي.
محليًّا، شهدت محافظة أسوان احتجاجات غاضبة من الأهالي، بعد انقطاع المياه عن مناطق المحمودية والإسكان الجديد والعقاد لما يصل إلى 10 أيام متتالية، مع فشل تدخلات كل جهات الدولة التنفيذية والتقنيَّة في إيجاد حل جذري سريع للمشكلة التي تعود إلى أعوام مضت، بما لا يتناسب مع ما هو منشود في مدخل المياه النيليَّة العذبة داخل مصر: أسوان.
وفي العاصمة الإدارية الجديدة، ليس ببعيد عن القصر الرئاسي الفخم الذي استقبل فيه السيسي قادة الإقليم، نظمت عدد من النسوة وقفة احتجاجية أمام مقر وزارة القوى العاملة الجديد، اعتراضًا على القانون 73 لسنة 2020، حيث قالت إحدى العاملات إنَّه جرى فصلها من الوظيفة، والإضرار المعنوي بها وبأسرتها، وحرمانها من حقوقها بعد الفصل؛ مع عدم إتاحة إمكان تكرار الفحص، وعدم مراعاة أصحاب الأمراض المزمنة ممَّن يتناولون عقاقير مدرجة في الجدول بإشراف طبي. وفي نفس الصدد، لا يزال 4 عمال محبوسين، بعد حضورهم ندوة حزبية في السويس عن نفس القانون المعيب.
البطولات الفرديَّة
مع فقدان بعض المعتقلين، ممن طال عليهم الأمد في غيابات الجب، الأمل في الخروج والحريَّة، وفشل محاولات الضغط على النظام في إحداث تغيير حقيقي بهذا الملف خلال عقد كامل؛ بدا أنَّ بعضهم وذويهم صاروا يلجؤون إلى أدوات لا تخلو من خطورة، في محاولة لحلحلة الأوضاع أو تحسين ظروف الاحتجاز.
فوالدة المعتقل السياسي علاء عبد الفتاح، ليلى سويف، فقدت 25 كيلوجرامًا من وزنها، بعد دخولها إضرابًا متواصلًا عن الطعام لمدة تناهز 100 يوم، قضت معظمها في أسفار مكوكية بين مصر وإنجلترا، في مغامرة قد تؤدي إلى وفاتها كما تقول نجلتها سناء، التي أرسلت بدورها، عبر وسطاء، طلبًا للعفو الرئاسي عن علاء؛ ولكن دون جدوى حتى الآن.
وتقول سويف إنَّها تشعر بتعاطف وزارة الخارجية البريطانية، ممثلة في ديفيد لامي وزير الخارجية، مع قضية علاء، ولكن السلطات المصرية تتعنت في الاستجابة للضغوط. وبحسب خطاب موجه من أكثر من 100 نائب في العموم البريطاني لوزير الخارجية، فإنَّ النظام في مصر يمنع القنصلية البريطانية من زيارته في محبسه، في ظل عدم الاعتراف بجنسيته البريطانية.
ويخوض الشيخ محمود شعبان أستاذ البلاغة في جامعة الأزهر إضرابًا كاملًا عن الطعام منذ شهر ونصف في سجن وادي النطرون 430، بسبب ما يلاقيه من انتهاكات على يد مسؤولي السجن، مما أدى إلى تدهور حالته الصحية، وإصابته بشلل مؤقت، وعدم إمكان تحركه إلا بواسطة كرسي متحرك.
كما بدأ الناشط السياسي محمد عادل إضرابًا عن الطعام في سجن جمصة، بعد أن رفض مأمور السجن أداءه الامتحانات عن دبلوم القانون داخل السجن، رغم تقديم عادل ما يثبت اعتماد جدول الامتحانات وما يثبت التحاقه بكلية الحقوق، وذلك في مادتين متتاليتين، وسط أنباء عن نقله إلى مقر احتجاز أكثر إيذاءً وتنكيلًا، عقابًا له على تصعيده.
وفي نفس سياق النضالات الفردية، بدأت في ديسمبر الماضي، الناشطة رشا عزب اعتصامًا مفتوحًا داخل نقابة الصحافيين، احتجاجًا على ما تقول إنَّه “بلطجة من الأمن الوطني ووزارة الداخلية” ضدها، والتي تمثلت في ملاحقتها عبر مخبرين وسرقة سيارتها ورفض تحريك المحاضر المقدمة منها، وهو ما بدأ، وفقًا لروايتها، منذ السابع من أكتوبر 2023، حينما عبَّرت عزب عن موقفها الداعم للقضيَّة الفلسطينيَّة.
الملخَّص
أصيبَ النظام المصري بصدمة حقيقية من اتجاه وسرعة التطورات في الساحة السورية، ما جعله يتحسس وضعه الداخلي ويراجع حساباته في الإقليم، على نحو أظهر قدرًا من الهشاشة والتصلّب والعجز عن التعامل مع المستجَّدات.
كما أعادت التطورات في سوريا، لا سيما تحرير المعتقلين والكشف عن أعداد المعتقلين قسريًّا، تسليط الضوء على مأساة نظرائهم في مصر، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، ما بين ألمٍ من ذويهم على فراق الأحباب وفلذات الأكباد، وما بين أمل في فرج قد لا تعضده الأسباب.
من جانبها، تحاول الحكومة، إلى جانب تشديد القبضة الأمنية في هذا الوقت الحساس، تهدئة بعض الملفات المفتوحة، حيث أغلقت ملف الصدام مع ما يتجاوز 50 قاضيًا رفيعًا على خلفية اتهامات سابقة لهم بالانضمام إلى جماعة إرهابية، أو لحديث بعضهم عن مشكلات مهنية ومالية على مواقع التواصل.
وقد أصدر النظام عفوًا رئاسيًّا عن معظم معتقلي قضية حق العودة في سيناء، ممن صدرت بحقهم أحكام بالحبس مؤخرًا، مبررًا ذلك بدور أهل سيناء الوطني في مكافحة الإرهاب، كما أدخل تعديلات على قانون المسؤولية الطبية بهدف احتواء غضب الأطباء، ووعدَ الهيئات القضائية بأندية بديلة على النيل أيضًا عوضًا عن تلك التي ستُزال.
نقابيًّا، بالرغم مما أظهره منتسبو النقابات الكبرى من مواقف مشرفة، فإنَّ بعض قيادات النقابات أظهرت تراجعًا أمام السلطة لتهدئة التيار، لدرجة أنَّ نقيب المحامين عبد الحليم علام رفض تعديلات اقترحها النائب فريدي البياضي على قانون الإجراءات الجنائية الجديد، لصالح المحامين! كما آثر نقيب الأطباء الصدام مع المنتسبين ومجلس النقابة على الصدام مع الحكومة في أمر عقد الجمعية العمومية.
وعلى الهامش القريب من المتن، ينبغي الإشارة إلى رصد اعتياد المواطنين الزحف إلى العاصمة الإدارية الجديدة للتعبير عن مشكلاتهم أمام المقرات الحكومية المستحدثة، كما في واقعة النسوة المفصولات بموجب قانون المخدرات، أو من طلاب الثانوي الفني سابقًا.
كما يتجلى الدور الوطني والأخلاقي للمرأة المصرية واضحًا في هذه المرحلة، لا من خلال المشاركة في النضال المباشر مثل عائلة سويف وحسب، وإنما في النبش والبحث خلف الكواليس عن مصالح أزواجهنّ، المعتقلين والمختفين قسريًّا، بالنضال والتدوين وزيارات السجون، ومن ذلك رفيدة حمدي زوجة محمد عادل التي تعد بمثابة صوته إلى العالم، من خلف الجدران، وغيرهنّ الكثير مما لا يتسع المقام لذكره.
اضغط لتحميل الملف