على وقع مقتل منسق حزب القوات اللبنانية في منطقة جبيل باسكال سليمان، شهدت مناطق انتشار حزب القوات تصعيدًا تجاه اللاجئين السوريين في لبنان، اتسم بالطائفية والعنصرية. تعيد هذه السلوكيات مقدمات الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي 1975 و1989 إلى الذاكرة، مع استبدال المخيمات الفلسطينية باللاجئين السوريين، ما عزز استقطابًا إسلاميًّا مسيحيًّا في ظل أجواء أمنية وسياسية متشنجة.
في معظم دول العالم، تكثر حوادث الخطف والقتل والسرقات المندرجة تحت بند الجريمة والجريمة المنظمة، لكن الأمر مختلف في بلد كلبنان تقتات فيه الأحزاب على الأزمات. ولأجل هذا، كاد مقتل منسق حزب القوات اللبنانية في منطقة جبيل بمحافظة جبل لبنان أن يقود نحو احتراب داخلي، على بُعد أسبوع واحد فقط من ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية في 13 أبريل.
ففي 7 أبريل 2024، فُقد الاتصال بباسكال بعد أن اعترضت عصابة مسلحة أفرادها سوريون طريقه أثناء قيادته سيارته في منطقة ميفوق القطارة بجبل لبنان، ليُعثر على جثته في الداخل السوري في 9 أبريل. وبعد التنسيق مع الأمن السوري، تسلمت مخابرات الجيش اللبناني جثة بسكال وسيارته وثلاثة سوريين شاركوا في عملية السلب، كما اعتُقل آخران من العصابة نفسها في طرابلس شمال لبنان. وبعد كشف الطب الشرعي على الجثة، تبين أنَّ باسكال توفي إثر ضربه على رأسه بآلة حادة، وهو ما أكدته اعترافات أعضاء العصابة بأنَّهم ضربوه بأعقاب المسدسات على رأسه أثناء اختطافه.
“القوات” ضد منطق الدولة
يصنف حزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع نفسه في خانة الأحزاب السيادية، أي تلك الساعية لتمكين سيادة الدولة ومؤسساتها على الأراضي اللبنانية، بعيدًا عن منطق الميليشيات والمقاطعات و”الدويلة” وفق تعبير جعجع نفسه. لكن حادثة مقتل باسكال جاءت لتسقط الشعارات، على قاعدة أنَّ “العبرة بالحقائق والمعاني لا الألفاظ والمباني”، حيث سارعت القوات منذ الساعات الأولى لتوجيه أصابع الاتهام لخصمها الأبرز حزب الله، ولجأت للضغط عبر الشارع رافضة الرواية الرسمية بعد التحقيقات الأولية في الحادثة. ومع ضعف الاتهام الموجه للحزب، صبت القوات جم غضبها على اللاجئين السوريين.
ففي 8 أبريل 2024، صدر عن حزب القوات اللبنانية بيان يعتبر مقتل باسكال “عملية اغتيال سياسي”، رافضًا بيان قيادة الجيش اللبناني الذي أكد أنَّ “المخطوف قُتل أثناء محاولة سرقة سيارته”. كما تداعى عناصر القوات ومناصروها إلى قطع الطرقات والاعتداء على اللاجئين السوريين المقيمين في مناطقهم مرددين شعارات طائفية وعنصرية. وأظهرت مقاطع مصورة إطلاق عناصر القوات النار في الهواء في أحياء بلدة ذوق مصبح في جبل لبنان، رافعين رايات “وحدات الصدم” وهي الوحدات العسكرية الخاصة التابعة للقوات اللبنانية في سنوات الحرب الأهلية.
وحتى بعد العثور على جثة باسكال وتقرير الطب الشرعي وتسلم مخابرات الجيش المتورطين من الجانب السوري، وصفت نائبة القوات في مجلس النواب غادة أيوب، في 9 أبريل 2024، رواية جهاز المخابرات عن دوافع الخطف بكونها “أفلامًا مفبركة من نسيج الخيال”.
كذلك دعا رئيس جهاز التواصل والإعلام في القوات شارل جبور، في مقابلة له على منصة “بوديوم” في 11 أبريل، إلى اعتماد فكرة “حل الدولتين” في لبنان، على غرار “حل الدولتين” بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني، في إشارة واضحة إلى تقسيم لبنان. بينما أكد نائب القوات جورج عقيص لقناة “إم تي في”، في 12 أبريل 2024، أنَّ المواجهة التي يخوضونها هي ضد إلغاء المسيحيين في لبنان.
التصويب على اللاجئين
تنفي القوات اتهامها بالعنصرية أو الطائفية تجاه اللاجئين السوريين، وتتبرأ مما تسميه ممارسات فردية طالت لاجئين مقيمين في مناطق انتشارها، كتلك التي حصلت في برج حمود حيث طُلب منهم إغلاق محالهم وترك مساكنهم في غضون 24 ساعة. لكن قائد القوات سمير جعجع خرج في مؤتمر صحفي، في 19 أبريل 2024، ليعزز منطق التحريض تجاه اللاجئين السوريين، في خطاب يعيد للذاكرة خطابات “الجبهة اللبنانية” تجاه اللاجئين الفلسطينيين إبان الحرب الأهلية اللبنانية.
وصف جعجع في مؤتمره الصحفي قضية اللاجئين بكونها “خطر وجودي فعلي يهدد لبنان”، ثُمَّ عزز تحريضه في الاتجاه الأمني ليطرح تساؤلًا فيما لو أرادت جهة إقليمية ما تسليح اللاجئين، مستنتجًا أنَّه “سيخرج من هؤلاء اللاجئين 200 ألف مسلح على أقل تقدير”! ولأنَّ هاجس الديمغرافيا يؤرقه، افترض جعجع أنَّ “الأزمة” السورية قد تمتد 13 سنة إضافية، ما يعني أنَّ عدد اللاجئين السوريين في لبنان سيصل إلى 4 ملايين لاجئ بحلول عام 2030، على حد تعبيره.
استحضار مقدمات الحرب: السوريون بدلًا من الفلسطينيين!
أعاد أداء حزب القوات عقب مقتل باسكال سليمان، وتصريحات نوابه ومسؤوليه وقائده، مقدمات الحرب اللبنانية إلى الذاكرة قبل أيام من ذكراها الـ 49. فالحرب التي اندلعت إثر حادث عين الرمانة في 13 أبريل 1975 جاءت بعد دعاية إعلامية مكثفة ضد اللاجئين الفلسطينيين، ومناوشات وأحداث أمنية متقطعة بينهم وبين أحزاب المارونية السياسية.
تفجرت الحرب الأهلية اللبنانية بقرار من أحزاب المارونية السياسية، التي دفعتها هواجس الديمغرافيا المسلمة المحيطة بهم، فالموارنة ينظرون إلى لبنان على أنَّه “في الأساس دولتهم التي أسسوها” على حد تعبير جوزيف أبوخليل، أحد أبرز وجوه حزب القوات أثناء سنوات الحرب في كتابه “قصة الموارنة في الحرب”. فالديمغرافيا، وتمايز الهُوية اللبنانية عن المحيط، والتفوق الماروني وحقوق المسيحيين، كلها مصطلحات وعناوين مكررة وُظفت في الحرب اللبنانية من قبل أحزاب المارونية السياسية، ويعاد توظيفها اليوم من قبل هذه الأحزاب التي يتقدمها حزب القوات.
والمفارقة اليوم أنَّ اللاجئين السوريين لا يشكلون تنظيمات مسلحة لها قواعد عسكرية أو عناصر مدربة، بعكس اللاجئين الفلسطينيين الذين دخلوا لبنان كتنظيمات فدائية مسلحة ولعبوا دورًا فاعلًا في المشهد السياسي اللبناني.
لماذا اللعب بورقة اللاجئين الآن؟
في السنوات الأولى للثورة السورية ولجوء السوريين إلى لبنان، كانت القوات اللبنانية تربط عودة اللاجئين بتغيير نظام بشار الأسد في دمشق، بينما قال جعجع في مؤتمره الصحفي الأخير إنَّ كل السوريين في لبنان، سوى الحاصلين على إقامات وعددهم 300 ألف من أصل أكثر من مليون لاجئ، وجودهم غير شرعي ويجب أن يخرجوا من لبنان.
والحقيقة أنَّ جعجع وحزبه استثمروا كثيراً في ملف الثورة السورية، ووظفوا قضيتها المحقة لتحقيق نقاط في المشهد السياسي اللبناني في مواجهة خصمهم حزب الله. أما اليوم وقد فشل الرهان وعاودهم شبح الديمغرافيا من جديد، في ظل حرب مفتوحة يشهدها جنوب لبنان وتهديدات إسرائيلية بالتصعيد، فإنَّ القوات تتخذ هذه المواقف العنصرية وتترجمها في الشارع لا لحل أزمة اللاجئين، بل لتحقيق نقاط أخرى في المشهد السياسي.
مطية سهلة التوظيف
بدأ تدفق اللاجئين السوريين على لبنان في عام 2011، ووصل العدد بحلول عام 2014 إلى مليون لاجئ. وفي مايو 2015، علقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين تسجيل اللاجئين، بينما يقتصر عدد المسجلين اليوم على نحو 925,000 لاجئ وَفقًا لـ “تقرير الشرق الأوسط رقم 211” الصادر في فبراير 2020 عن “مجموعة الأزمات الدولية”. وبهذه النسبة، فإنَّ لدى لبنان أكبر عدد من اللاجئين في العالم نسبة إلى عدد سكانه البالغ 5.49 مليون لبناني، وَفقًا لتقديرات شعبة السكان التابعة لإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة.
ورغم أنَّ هذا العدد الكبير نسبيًا يشكل ضغطًا كبيرًا على اقتصاد لبنان وبنيته التحتية، فإنَّ لبنان تلقى حتى عام 2018 أكثر من 7 مليار دولار على شكل قروض ومنح خارجية لمواجهة هذا الضغط، وتعهدات بميزانيات مشابهة للسنوات اللاحقة وَفقًا لمجموعة الأزمات الدولية. كما أنَّ تحميل اللاجئين جريرة انتشار الجريمة في لبنان بعيد عن الإنصاف، حيث شهد لبنان في السنوات الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في معدل الجريمة، وَفقًا لما صرح به وزير الداخلية بسام المولوي لقناة الجديد في 14 أبريل 2024.
ولأنَّ عنوان اللاجئين يسهل توظيفه في إطار الانقسام السياسي المتسم بالطائفية في لبنان، فمن المتوقع أن يشكل في المرحلة المقبلة عامل تأزيم أكبر للواقع اللبناني، خاصة في ظل تعمد المارونية السياسية تبني خطاب عنصري وطائفي تجاههم. ورغم أنَّ الجريمة موجودة في كل دول العالم، فإنَّ أي حادث قد يقع في لبنان يكون أحد طرفيه سوريًّا من شأنه أن يضع الشارع اللبناني أمام حافة الانفجار الطائفي. وعلى أي حال، فإنَّ بلدًا كلبنان يعيش دائمًا على “كف عفريت” وَفق الوصف الشعبي، إنما لا يمكن لطرف أن يفتح باب الاقتتال الداخلي دون إذ خارجي، كما عبر عن ذلك الوزير اللبناني السابق غازي العريضي. ولذا، يتوقع أن تشهد المرحلة الحاليّة تصعيدًا منضبطًا في الداخل اللبناني، مع الإبقاء على كافة الاحتمالات الأخرى مطروحة ربطًا بالحرب الدائرة في الجنوب والتصعيد الإقليمي مع إسرائيل.