تخطي الروابط

مصر بين انفجار الثورة وكابوس الفوضى لماذا يختلف فساد نظام عبد الناصر عن السيسي؟

مرت على مصر العديد من الفترات التي اجتمعت فيها حالة الحرب مع الأزمات الداخلية القاتلة، حيث كانت هناك لحظات حاسمة تقف فيها الدولة على مفترق طرق: إما الانفجار الداخلي من خلال ثورة يُسمع صداها في أنحاء البلاد كافة، وإما التماسك وتحمل الأزمات، خصوصًا لو كانت الدولة في حالة حرب خارجية.

وقد كانت هذه المفترقات دائمًا محكومة بعوامل متشابكة بين الداخل المتصدع والخارج المهدَّد، بين ثورة قد تكون خلاصًا من النظام وأملًا في حياة أفضل، ولكن معها فوضى عارمة داخلية، وبين حرب خارجية تفرض حالة من الاصطفاف الشعبي والتماسك خلف قيادات الدولة.

بين النكبة وانتصار أكتوبر، كيف حافظت مصر على تماسكها رغم الانهيار؟
منذ نكبة 1948، ومرورًا بعدوان 1956 ونكسة 1967، عانت مصر من أزمات اقتصادية طاحنة، وفقرٍ مدقع، وتفاوتٍ طبقي كبير، وفسادٍ في مؤسسات الدولة، وانسدادٍ سياسي شبه كامل، وبطشٍ من طرف السلطة. ومع ذلك، لم يشهد الداخل المصري انهيارًا داخليًا أو ثورة شعبية تُطيح بالنظام، بل كان هناك تماسك داخلي صلب، لا سيما حين تصاعد خطر الاحتلال الإسرائيلي.
وحين تهاوت الجيوش العربية في 1967 واحتُلّت سيناء، كانت لحظة الهزيمة قاسية، لكن لم تُقابل بانفجار داخلي، بل بتعبئة وطنية شاملة استعدادًا لمعركة أخرى قادمة، وهو ما حدث في أكتوبر 1973، حيث أدرك الشعب طوال هذه الفترة أن الحرب فُرضت وليست خيارًا، وأن الداخل المتماسك هو السلاح الأول في وجه العدو. ولذلك، تجسدت النتيجة في نجاح التماسك الشعبي الداخلي من أجل الاصطفاف أمام العدو مقابل القيام بثورة داخلية للإطاحة بالنظام.

يناير 2011، حين غاب العدو الخارجي فظهر العدو الداخلي

على النقيض تمامًا، جاءت ثورة 25 يناير 2011، في وقت لم تكن فيه مصر في مواجهة حرب خارجية أو تهديد وجودي مباشر، بل برزت تحديات داخلية بشكل رئيس: نظامٌ فاسدٌ مُسِنٌّ قد أصابته الشيخوخة وأفرغ الدولة من أي أمل بالإصلاح، فقرٌ عام أصاب جموع الشعب، وبطشٌ داخلي واسع، وإشاعات حول توريث السلطة. ومع غياب الخطر الخارجي، انفجر الغضب الداخلي بلا حواجز؛ فكانت ثورة يناير.

بين بطش النظام واحتمالية حدوث حرب مع إسرائيل

اليوم، وفي عام 2025، تقف مصر على صفيح ساخن، ويتساءل المراقبون: هل نحن أمام ثورة جديدة أم حربٍ مصيرية ضد الاحتلال؟

إن القمع والظلم في أقسى صوره، وتنتشر اعتقالاتٌ تعسفيةٌ أمنيةٌ تطال الكثيرين، ويوجد شللٌ تامٌّ في الحياة السياسية، فلا أحزاب ولا معارضة ولا تداول للسلطة، بطالةٌ وفقرٌ وتفاوتٌ طبقي غير مسبوق، فعلى الرغم من نظام عبد الناصر الاشتراكي، لم يصل الشعب المصري إلى هذا التفاوت الطبقي المزلزل، بل والأدهى من ذلك وجود حالة نفورٍ شعبي من سلبية وتواطؤ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أمام المجازر التي تُرتكب في حق الشعب الفلسطيني على بعد أمتارٍ معدودة من الحدود المصرية.

كافة المؤشرات تقول إن انفجارًا داخليًا على وشك الحدوث، وأن مشهد يناير 2011 قد يتكرر. لكن المفارقة أن هذه اللحظة تتقاطع مع خطرٍ خارجي جديد، حيث تتصاعد التهديدات بحربٍ إقليمية كبرى مع إسرائيل، وتبدو أن مصر في عين العاصفة، وأن مواجهة عسكرية بين مصر وإسرائيل قد تحدث.

وعلى الرغم من التشابه السطحي في حالة الدولة بين نظامي جمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسي، مثل وجود عدو خارجي هو إسرائيل، ووجود انهيار وفساد داخلي، إلا أن المدقق يجد أن ثمة اختلافاتٍ جوهرية بينهما جعلت رؤية الشعب لنظام السيسي مختلفةً عما كانت عليه مع عبد الناصر. فما الاختلاف بين الشخصيتين الذي يجعل الشعب يغيّر من طريقة تعامله مع الأحداث؟

انقلاب عبد الناصر على النظام الملكي، ومساعيه لإخراج الاحتلال البريطاني من مصر، جعل ناصر رمزًا للتحرر الوطني وبطلًا قوميًا بالنسبة لكثير من المصريين والعرب، وهو ما لا يتوفر في شخص عبد الفتاح السيسي، الذي أتى بانقلاب على رئيسٍ مدنيٍّ مُنتخب، مما جعل توصيفه أنه مغتصب للسلطة، وليس رئيسًا ذا نفوذٍ وشعبية داخلية.
كذلك، كان جمال عبد الناصر في حالة حربٍ حقيقية مع إسرائيل، وبالنسبة للشعب المصري، فإنه يرى –وما زال– أن العدو الأكبر بالنسبة له هو إسرائيل؛ فإن كنت ستحارب إسرائيل، فالشعب في ظهرك مهما حدث من خصومات، أما إن كنت ستتواطأ وتتحالف مع إسرائيل، وتساعدها في حربها على قطاع غزة، وتكون سببًا في قتل عشرات الآلاف من الأبرياء في القطاع، فهذا فيه من الندالة والخسة والدناءة ما يجعل الشعب يكره فاعله.

ولقد قام عبد الناصر ببعض الإصلاحات التي اعتُبرت في وقتها إنجازًا وطنيًا غير مسبوق، مثل بناء السد العالي، وتأميم قناة السويس، وجعل التعليم والصحة مجانيَّين، وغيرها من الإجراءات التي جعلته في نظر الشعب شخصًا إصلاحيًا وطنيًا، يُتحمَّل الفقر والقمع وحالة الحرب من أجله. أما عبد الفتاح السيسي، فلم يُقدم ما يُشفع له لدى الشعب، فتارةً يبيع أصول الدولة مثل رأس الحكمة، وتارةً يُفرّط في أجزاء أخرى مثل تيران وصنافير، وتارةً يتهاون في ملفاتٍ تهدد الأمن القومي مثل ملف سد النهضة، كما يشيد العاصمة الإدارية الجديدة بمليارات الدولارات، وقاد أكبر عملية استدانة في تاريخ مصر، وأدخل البلاد في أزمات اقتصادية خانقة، متغافلًا عن مآلات ذلك.

ولم تصل بأي شكل حالة القمع الأمني والاعتقالات وتقييد المعارضة في عهد عبد الناصر إلى ما وصلت إليه في عهد السيسي؛ فالقمع غير المسبوق، وانتشار الإخفاء القسري، والتنكيل، والتعذيب في السجون، جعلت من بطش نظام السيسي يُضرب به المثل مقارنةً بغيره على مر تاريخ مصر المعاصر. إن المواطن في عهد السيسي لم يجد شيئًا من الأساس، فقط ضبابًا من الأحلام غير المتحققة، وبطشًا وفقرًا واستعلاءً، فاض بالشعب إلى حافة الهاوية.

الخاتمة
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل المطلوب من الشعب أن يتماسك خلف النظام الحالي في مواجهة الخطر الخارجي؟ أم أن الانفجار الداخلي بات حتميًا ولا مفر منه نتيجة فساد منظومة الحكم؟
في لحظات الحرب، نعم، وبكل تأكيد، التماسك ضرورة وطنية، لكن هذا التماسك لا يُفرض بالقمع والاعتقال، بل يتحقق عندما تتوفر مقومات الحياة الأساسية للمواطنين؛ فشعبٌ بلا مياه، ولا طعام، ولا مسكن، قد لا يصبر على النظام الحاكم مهما كانت التحديات الخارجية التي تواجهه.

فمصر اليوم تقف أمام خيطٍ رفيع يفصل بين الثورة والفوضى، والمعادلة الصعبة أن الداخل الممزق لا يصمد أمام حالة الحرب، وأن الخارج المتربص لا يرحم دولةً منهارة داخليًا.