كيف فتح الصدام بين الأعداء السابقين في طرابلس أبواب التمويل بشكل غير مسبوق لعائلة حفتر؟
ولفرام لاتشر – زميل أول في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية ومؤلف كتاب “تفتت ليبيا”
توظيف الانقسام
رسميًّا لم يقم البنك المركزي في طرابلس بصرف أي أموال لحكومة حماد حتى وقت كتابة هذا التقرير، لكن تمويل المشاريع الكبيرة في المناطق الواقعة تحت سيطرة حفتر يضعف هذا الادعاء.
تبدو طرابلس اليوم وكأنها على هامش التطوير، وهي حالة غير معهودة لمدينة كانت مركزًا للصراعات الليبية حول السلطة والثروة على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية. الآن، يبدو أنَّ مركز الفعل والمبادرة انتقل لمكان آخر، حيث يعود رجال الأعمال الليبيون والدبلوماسيون الأجانب مذهولين من شرق ليبيا، ويصفون بدهشة كيف أنَّ الطرق والجسور والمباني العامة والمشاريع السكنية الجديدة ترتفع من الأرض بسرعة مذهلة.
تزداد دهشتهم من هذا التحول المفاجئ للأحداث بعد أكثر من عقد من الزمن كانت فيه مشاريع البنية التحتية الكبيرة في حالة تجمد، ولكن إعادة الإعمار الجارية حاليًّا في المناطق التي تسيطر عليها عائلة القائد العسكري الليبي خليفة حفتر تُعتبر “غير مسبوقة”؛ حتى عند مقارنتها بمرحلة القذافي الأخيرة.
بالمقارنة، يسود الجمود في طرابلس، فالنشاط الوحيد الملاحظ في مجال البناء هو الطريق السريع الذي تشيده مجموعة شركات مصرية، في محاولة من رئيس الوزراء المتمركز في طرابلس، عبدالحميد الدبيبة، لكسب ود الحكومة المصرية، لكن حتى في هذه المحاولة لا تسير الأمور بسلاسة، حيث يشتكي المقاولون الذين يعملون في مشاريع أخرى بغرب ليبيا من صعوبة الحصول على مستحقاتهم إلا إذا كان لديهم حلفاء في الدائرة الداخلية للدبيبة، فوصول الحكومة لميزانيات التنمية صار محدودًا.
تُعدُّ هذه حالة متناقضة، فعوائد النفط الليبي تُحول عبر المؤسسة الوطنية للنفط والبنك المركزي المتعاونين رسميًّا مع حكومة الدبيبة، بدلًا من الحكومة الموازية بقيادة أسامة حماد، التي تتخذ من بنغازي مقرًا لها وتوفر واجهة مدنية لحكم عائلة حفتر.
رسميًّا لم يقم البنك المركزي في طرابلس بصرف أي أموال لحكومة حماد حتى وقت كتابة هذا التقرير، لكن تمويل المشاريع الكبيرة في المناطق الواقعة تحت سيطرة حفتر يضعف هذا الادعاء.
إجابة هذا اللغز تقع في فهم صراعات القوة في طرابلس التي أعادت تشكيل التحالفات السياسية في ليبيا وساعدت عائلة حفتر في الحصول على أموال غير مسبوقة. لقد أثبت حفتر وأبناؤه براعتهم في استغلال هذه الانقسامات، بين محافظ البنك المركزي، الصديق الكبير، والدبيبة أو بشكل أكثر دقة، ابن شقيق الدبيبة إبراهيم، الذي يُنظر إليه كصاحب النفوذ الفعلي خلف الحكومة في طرابلس.
تحالفات الغدر: الدبيبة وحفتر في ميزان القوة
تُعدُّ واردات الوقود التي أشار لها الكبير مصدر رئيسي لتمويل عائلة حفتر
إذا كانت السياسة الليبية نادرة الظهور في عناوين الأخبار الدولية في السنوات الأخيرة، فإنَّ هذا ليس بالضرورة دليلًا على الوضع الجيد، ففي حين اتسم العقد الأول بعد سقوط القذافي في عام 2011 بالاضطرابات والحروب الأهلية المتكررة، فإنَّ الفترة منذ عام 2022 كانت فترة جمود سياسي وصفقات محاصصة خلف الكواليس، ولم تعد السياسة مسألة عامة، بل أصبحت تُمارس من خلال التفاهمات الخفية بين عدد قليل من الأشخاص.
التوصيف الدارج للمشهد يبدو بسيطًا بشكل مخل: حيث يصور المشهد على أنَّه توجد حكومتان متنافستان وكتلتان عسكريتان، تدعمهما قوتان أجنبيتان هما تركيا وروسيا، وأنَّ الحضور العسكري لهاتين الدولتين منع العودة إلى الحرب الأهلية منذ أن هزمت قوات غرب ليبيا، بدعم من تركيا، قوات خليفة حفتر في معركة طرابلس منتصف عام 2020.
وعقب هذا الصراع، أدت الوساطة من طرف الأمم المتحدة إلى تشكيل حكومة وحدة بقيادة الدبيبة في أوائل عام 2021. ولكن خطة الأمم المتحدة لإجراء انتخابات في وقت لاحق من ذلك العام فشلت. ما أدى إلى تحالف معارضي الدبيبة في غرب ليبيا مع حفتر لتشكيل حكومة جديدة، ولكن الدبيبة فاز في منافسة ولاءات الجماعات المسلحة في طرابلس، تاركًا الحكومة الموازية في حالة إشراف اسمي على شرق وجنوب البلاد الذي تسيطر عليه عائلة حفتر. في المقابل تعاون الدبيبة ومحافظ البنك المركزي الصديق الكبير عن كثب، حيث اعتمد كل منهما على الآخر لضمان بقائه السياسي.
لكن الانقسامات الرسمية أخفت تحتها شبكات علاقات وتحالفات بين الأطراف المتصارعة الرئيسية في ليبيا، ففي يوليو 2022، توصل إبراهيم الدبيبة وصدام حفتر إلى اتفاق لتعيين مرشح حفتر، فرحات بن قدارة كرئيس للمؤسسة الوطنية للنفط. مقابل ذلك، رفع حفتر الحصار الجزئي على إنتاج النفط الذي سبق أنَّ فرضه للضغط على رئيس الوزراء الدبيبة للاستقالة. ومنذ ذلك الحين، عادت صادرات النفط لتغمر عائداتها البنك المركزي، ومن ثَمَّ إلى حكومة طرابلس التي دفعت الرواتب في جميع أنحاء البلاد بما فيها رواتب منتسبي قوات حفتر.
لبعض الوقت، بدا أنَّ الجمود يوفر بيئة مريحة لجميع اللاعبين الرئيسيين. فقد استحوذ كل من حفتر وأعداؤه الاسميون — مجموعة القادة العسكريين الذين ضمّنوا بقاء الدبيبة — على مبالغ متزايدة من المال والنفوذ عبر توزيع المناصب. وتعامل إبراهيم الدبيبة والقادة المتحالفين معه باستمرار مع أبناء حفتر. بينما جرى تهميش معارضي الدبيبة في غرب ليبيا، وأصبحت الاشتباكات في طرابلس — التي كانت شائعة سابقًا — نادرة للغاية.
ورغم ذلك، فإنَّ نهب الأموال الحكومية، الذي أثار العديد من المواجهات والتقلبات المفاجئة، استمر حتى الآن في صمت. في هذه الأثناء، تراكمت ثروات وسلطات العائلتين الحاكمتين وقادة الميليشيات المتحالفة معهما بشكل متزايد.
انتهت حالة الهدوء في صيف عام 2023 بعد تفجر الخلاف بين محافظ المصرف المركزي ورئيس الحكومة. هناك روايات متباينة حول ما دفع إلى حدوث الخلاف بين الكبير ورئيس الوزراء، حيث يؤكد الكبير ومستشاروه أنَّ الإنفاق الحكومي المرتفع للدبيبة غير قابل للاستدامة، ما دفع المركزي لتعليق التفويضات بالمدفوعات لكل شيء سوى الرواتب في أكتوبر 2023.
نقطة الخلاف حسبما قال لي أحد مستشاري الكبير في أواخر 2023، كانت الإنفاق غير المعقول على الهيئات العامة التي يترأسها حلفاء مقربون من إبراهيم الدبيبة، مثل الإدارة التي تتعامل مع المدفوعات لعلاج المستشفيات في الخارج. وفي العلن، عبّر الكبير عن قلقه الخاص من الزيادة الكبيرة في فاتورة واردات الوقود المدعوم وما قابلها من تراجع في عائدات صادرات النفط التي تحولها المؤسسة الوطنية للنفط إلى البنك المركزي.
تُعدُّ واردات الوقود التي أشار لها الكبير مصدر رئيسي لتمويل عائلة حفتر.
تمتلك ليبيا طاقة تكرير محدودة وتستورد معظم وقودها. وتشتري المؤسسة الوطنية للنفط الوقود بأسعار السوق العالمية، لكن شركاتها التابعة تبيعه للمستهلكين الليبيين بأسعار هي الأدنى في العالم: لتر البنزين يكلف حوالي ثلاثة سنتات بالسعر الرسمي، وبالتالي يوفر فرق الأسعار فرصًا كبيرة للربح غير المشروع. كانت عمليات تهريب الوقود إلى البلدان المجاورة شائعة حتى في عصر القذافي، لكن منذ عام 2011، حلّت الشبكات الضخمة محل المهربين الصغار.
النهب المنظم: شرايين شبكة التهريب
التوسع المتهور في تهريب الوقود كان يُنظر إليه كجزء من الترتيبات الضمنية التي تربط بين رئيس الوزراء الدبيبة وحفتر. سواء أحب الدبيبة ذلك أم لا، كان هذا جزءًا من الثمن الذي توجب عليه دفعه للحفاظ على تدفق النفط
هيمنت قوات حفتر على سوق تهريب الوقود بعد أن وسعت سيطرتها على معظم حدود ليبيا البرية والبحرية. وتضخمت هيمنتها بعد أن تولى مرشح حفتر بن قدارة منصب رئيس المؤسسة الوطنية للنفط في منتصف عام 2022، وعيّن لاحقًا مواليًّا لصدام على رأس شركة البريقة التابعة للمؤسسة التي تتولى معاملات مبيعات الوقود. ومنذ ذلك الحين، استمرت كميات الوقود المستوردة في الزيادة، كما توسعت عمليات التهريب في المناطق التي تحت سيطرة حفتر. كما أدى نظام المبادلة الغامض الذي يسمح للمؤسسة الوطنية للنفط بعقد صفقات لتبادل الوقود مقابل صادرات النفط إلى تسهيل عمليات التهريب والسرقة، وهو “صندوق أسود”، كما وصفه أحد كبار المسؤولين الماليين.
في الأشهر التي سبقت تعيين بن قدارة، كانت السفن أحيانًا تقوم بتحميل الوقود في ميناء بنغازي لتهريبه إلى الخارج. ولكن بعد ذلك، أصبحت هذه الشحنات روتينية، وفقًا لمجموعة الخبراء المسؤولة عن مراقبة انتهاكات العقوبات الأممية على ليبيا، حيث تقوم الشاحنات بتعبئة الوقود في مستودعات تحت سيطرة قوات حفتر، وتمر عبر نقاط تفتيش تديرها تلك القوات في طريقها إلى السودان وتشاد، وصولًا إلى جمهورية إفريقيا الوسطى.
رجال الأعمال الذين تحدثت معهم والذين يعملون ضمن هذه الشبكات، والمصادر القريبة من عمليات ميناء بنغازي، جميعهم يذكرون صدام حفتر كمشرف نهائي على عمليات تهريب الوقود. ويزعمون أنَّ الأرباح يعاد استثمارها في الوحدات العسكرية التي ترفع تقاريرها مباشرة إلى صدام، وشقيقه خالد وأقارب آخرين.
من الطبيعي أن يصف الكبير تكلفة واردات الوقود المتزايدة التي تدعم هذه الأنشطة بكونها غير مستدامة. فمن 2021 إلى 2023، زادت فاتورة واردات الوقود السنوية أكثر من الضعف، لتبلغ 8.5 مليارات دولار أي ما يعادل ثلث عائدات النفط المحولة إلى البنك المركزي الليبي في ذلك العام.
اعتراض الصديق الكبير على آليات استيراد الوقود حمل معه اعتراضًا ضمنيًّا على الترتيبات المالية التي فقد السيطرة عليها كبنك مركزي، فمنذ أن انقسمت المؤسسات الحكومية في ليبيا إلى اثنين في عام 2014، كان الكبير هو المتحكم المركزي في كل من السياسة النقدية والمالية في ليبيا. لكن الآن، منع التبادل التجاري الذي قام به ابن قدارة في المؤسسة الوطنية للنفط أي إشراف من البنك المركزي على واردات الوقود، والأهم من ذلك، أنَّ التوسع المتهور في تهريب الوقود كان يُنظر إليه كجزء من الترتيبات الضمنية التي تربط بين رئيس الوزراء الدبيبة وحفتر. سواء أحب الدبيبة ذلك أم لا، كان هذا جزءًا من الثمن الذي توجب عليه دفعه للحفاظ على تدفق النفط. كانت هذه الترتيبات في قلب السياسة الليبية، لكنها تجاوزت الكبير وبالتالي قوضت مركزه.
تحالفات تحت الطاولة: مواجهة التهديدات من الداخل
جادل الصديق الكبير بأنَّ التهديد الذي يمثله الإنفاق الموازي على الاقتصاد الليبي جعل من الضروري التفاوض على ميزانية موحدة بين الإدارتين. لكن في الواقع، ساهم الكبير في تسهيل آليات التمويل للسلطات الشرقية.
يشير الكبير ومرافقوه إلى فساد حكومة الدبيبة كسبب للخلاف، حيث قال أحد كبار المسؤولين الماليين المقربين من الكبير لي في ديسمبر الماضي: “التزامات إبراهيم دبيبة تجاه حفتر وصدام وغنيوة [زعيم ميليشيا قوي في طرابلس] تتجاوز ما وافق عليه الكبير”.
لكن هناك رواية أخرى حول كيفية حدوث الخلاف بين الكبير والدبيبة، تتعلق بالمؤامرات السياسية بين صانعي القرار الذين يعيّنون ويزيلون كبار المسؤولين لتحقيق أهدافهم الخاصة من خلال المؤسسات الحكومية الليبية. وفقًا لهذه الرواية، بدأت السياسات الشرسة لإبراهيم الدبيبة تهدد الكبير مباشرة قبل أشهر من تحذيره من الإنفاق التوسعي، ففي يوليو 2023، فرض قادة الميليشيات المتحالفين مع إبراهيم مديرًا جديدًا للهيئة العامة للرقابة الإدارية، وهي وظيفة توفر لصاحبها سلطة الاعتراض على التعيينات والعقود في القطاع العام.
قال مسؤول مالي رفيع: “عندما حدث ذلك، بدأ صديق الكبير في القلق على منصبه الخاص”. يتفق القادة السابقون في طرابلس ومسؤولون كبار مع هذا الرأي، حيث كان المدير السابق للرقابة يعتمد على رجل الأعمال البارز محمد طاهر عيسى والمقرب من الصديق الكبير. فقديمًا دعم عيسى بقوة رئيس الوزراء الدبيبة في مساعيه للحفاظ على ولاءات الجماعات المسلحة في طرابلس. لكن بعد التغيير، شكّل عيسى تحالفًا يهدف إلى الإطاحة بالدبيبة.
في نفس الشهر، اعتُقل وزير المالية السابق “فرج بومطاري” لدى وصوله إلى طرابلس، حيث سعى للحصول على دعم البرلمانيين لترشيحه لمنصب الكبير كمحافظ البنك المركزي، وكان على ما يبدو مدعومًا من قبل كل من إبراهيم الدبيبة وصدام حفتر.
شكّل الصديق الكبير تحالفات مع فصائل شرق ليبيا لحماية نفسه من مؤامرات إبراهيم، وطلب دعم عقيلة صالح، رئيس البرلمان في الشرق الليبي، الذي سبق أن اعتبر الكبير محتالًا وأنَّ فترة ولايته كمحافظ قد انتهت منذ فترة طويلة. بعد أسابيع قليلة من حادثة وزير المالية السابق، حصل الكبير على مرسوم من رئاسة البرلمان يؤكد منصبه وكذلك منصب نائبه من الشرق مرعي البرعصي، وهو مسؤول رئيسي آخر مدين بتعيينه لأبناء حفتر. منح المرسوم الكبير والبرعصي الصلاحيات التي يحملها رسميًّا مجلس محافظي البنك المركزي، مما تطلب منهما العمل معًا عن كثب.
في الخريف، بدأ الكبير أولًا في حظر معاملات حلفاء إبراهيم دبيبة من السياسيين، ثُمَّ النفقات الرأسمالية والتشغيلية بشكل أوسع، قائلًا إنَّ الأموال المخصصة لعام 2023 قد نفدت. وبعد فترة قصيرة، في أوائل نوفمبر، غادر الكبير إلى تركيا، حيث تعرض لحادث سير قيل إنَّه كان محاولة لاغتياله، مهما كانت الحقيقة، بقي الكبير في تركيا لأكثر من شهر للحصول على علاج طبي، وفي الوقت نفسه حظر تفويضات الدفع لحكومة الدبيبة.
اعتقد السياسيون وقادة الميليشيات في طرابلس أنَّ الكبير يحاول الإطاحة بالدبيبة، وتصاعدت التوترات بين تحالفين ناشئين من الميليشيات في طرابلس، أحدهما يدعم الدبيبة، والآخر ينظر الآن إلى الكبير كأبرز خصوم الدبيبة. وعقد حليف الكبير محمد طاهر عيسى اجتماعات لجذب الدعم لتغيير الحكومة. وتراجع سعر الدينار مقابل العملات الأجنبية في السوق السوداء.
في الأشهر الأولى من عام 2024، استمر تدهور الأوضاع المالية للدبيبة، بينما أصبحت عائلة حفتر وحكومتها الشرقية فجأة غارقة في المال. قال لي أحد كبار المسؤولين الماليين في يونيو: “كان حفتر يتفاوض معنا على مليار هنا، ومئات الملايين هناك. الآن لم يعودوا يطلبون شيئًا، لديهم أكثر من حاجتهم”.
أهم سبب لانخفاض قيمة الدينار هو أنَّ عائلة حفتر كانت تطبع المال حرفيًّا ومجازيًّا، فضلًا عن تحويل هذا المال إلى عملة صعبة في السوق السوداء، مما عزز الطلب على الدولار.
في العلن، أشار كل من الكبير والدبيبة إلى هذا على أنَّه “الإنفاق الموازي غير المعروف المصدر”، وجادل الكبير بأنَّ التهديد الذي يمثله الإنفاق الموازي على الاقتصاد الليبي جعل من الضروري التفاوض على ميزانية موحدة بين الإدارتين. في الواقع، ساهم الكبير في تسهيل آليات التمويل للسلطات الشرقية.
في الأشهر الأخيرة من عام 2023، أعاق التنافس بين الحكومتين الاستجابة للكوارث الكبرى في مدينة درنة. في سبتمبر، دمر انهيار سدّين بعد الأمطار الغزيرة أجزاء كبيرة من مركز المدينة. لقي أكثر من 4,000 شخص حتفهم؛ ولا يزال حوالي 8,000 آخرين مفقودين.
استغلت الفصائل الليبية الكارثة كفرصة للتفوق على منافسيها. على الورق، أصدر الدبيبة مرسومًا بإنفاق 2 مليار دينار (ما يعادل 400 مليون دولار بسعر الصرف الرسمي) للاستجابة الطارئة وإعادة الإعمار؛ بينما خصص البرلمان في الشرق خمسة أضعاف هذا المبلغ للحكومة الموازية. ولكن لم يكن لدى حكومة الدبيبة أي وجود في درنة، بينما لم يكن لدى الإدارة الموازية وصول منتظم إلى تمويل من البنك المركزي. وفي الوقت نفسه، أصر الكبير على أنَّ عملية إعادة الإعمار يجب أن يُشرف عليها بشكل مشترك وبمشاركة البنك الدولي لضمان الشفافية. لشهور، أبقى المأزق عملية إعادة الإعمار في حالة تأخير، حتى مع بقاء أكثر من 40,000 شخص مشردين من منازلهم.
أشرف صدام حفتر على الاستجابة الأولية للأزمة، بينما أصبح شقيقه بلقاسم رئيس لجنة إعادة الإعمار في حكومة الشرق في ديسمبر 2023. في البداية، لم يكن لدى بلقاسم الكثير ليقدمه. ولكن بعد شهرين، حول برلمان الشرق اللجنة إلى صندوق إعادة الإعمار والتنمية لكامل ليبيا، وأزال عنها جميع أشكال الرقابة الإدارية والمالية. بعد ذلك بوقت قصير، بدأت الأعمال الإنشائية تتسارع في درنة، ولم تكن درنة وحدها، فقد بدأت الشركات المصرية والتركية في بناء الطرق والجسور والمباني في بنغازي ومدن أخرى.
اعتراف متأخر: دور البنك المركزي في مشاريع حفتر
قام البنك المركزي بتمديد قروض طويلة الأجل دون فوائد للبنوك، وأعادت التعديلات في مجالس الإدارة للبنوك الواقعة في الشرق السيطرة الفعلية لعائلة حفتر على البنوك التي أصبح لديها الآن عشرات المليارات من الدينار في حسابات البنك المركزي في طرابلس
لا يزال من غير الواضح من أين جاء المال لهذه الطفرة المفاجئة، لكن بلقاسم حفتر يقول للصحفيين إنَّ التمويل للمشاريع التي يشرف عليها يأتي من البنك المركزي. كما يعتقد الدبلوماسيون الغربيون أيضاً أنَّ البنك المركزي في طرابلس قد مول حكومة الشرق، رغم أنَّهم يفتقرون إلى التفاصيل. كما ادعى العديد من كبار المسؤولين الماليين في طرابلس أنَّ البنك المركزي قد قام بتحويلات مباشرة، بما في ذلك إلى صندوق بلقاسم. لكن البنك المركزي نفسه، الذي ينشر بيانات مفصلة عن المصروفات التي يوافق عليها، لم يعلن عن أي مدفوعات من هذا القبيل.
في أغسطس، اعترف البنك المركزي في طرابلس لأول مرة بأنَّ البنك المركزي في بنغازي قد استخدم 950 مليون دولار لمشاريع البناء في الشرق، لكنه لم يوضح من أين جاء الدينار المكافئ لهذا المبلغ. ونفى مستشار مقرب من الكبير مرارًا أن يكون البنك المركزي قد أجرى تحويلات إلى صندوق بلقاسم أو أي من أذرع حكومة الشرق الأخرى، لكن هذا قد يتغير بعد أن اعتمد برلمان الشرق في يوليو 2024 ميزانية موحدة بين الحكومتين الموازيتين، كما اقترح الكبير.
قدّم ثلاثة من كبار المسؤولين الماليين تفسيرًا بديلًا للانتعاش المالي لعائلة حفتر، حيث أشاروا إلى إشراف الكبير على تدفق الأموال من البنك المركزي بطرق غير مباشرة، تضمنت نقل الأصول المحتفظ بها من قبل البنوك التجارية في حسابات البنك المركزي الموازية في بنغازي إلى حسابات البنك المركزي في طرابلس، مما يسمح للبنوك باستخدامها. كانت هذه الأصول، التي تقدر بحوالي 51 مليار دينار (حوالي 10 مليارات دولار بالسعر الرسمي)، تمثل الجزء الأكبر من الديون المتراكمة التي تتحملها سلطات الشرق.
منذ عام 2015، كانت البنوك الواقعة في الشرق، تحت ضغط من قوات حفتر، تصرف الأموال بِناءً على طلب سلطات الشرق، مقابل سندات الخزانة، وكان البنك المركزي في بنغازي يشتري هذه السندات نظريًّا، وبدلًا من ذلك يودع الأصول في حسابات البنوك، كانت هذه الأصول افتراضية تمامًا، لأنَّ البنك المركزي في الشرق لم يكن لديه وصول إلى الإيرادات. ومع وصول قوات حفتر إلى طرابلس في عام 2019، أوشكت البنوك الشرقية على الإفلاس، وانتهت عملية التلاعب المالي. وبقيت الأصول، التي لم تستطع البنوك سحبها، مشكلة غير محلولة.
بدأ الكبير في تمويل البنوك الواقعة في الشرق عبر هذه الأصول في أوائل عام 2023، وكان حينها لا يزال على علاقة جيدة بالدبيبة حيث أفاد مسؤولو البنك المركزي بأنًّه جرى نقل حوالي 3.7مليارات دولار في يونيو من نفس العام، لكن بعد أن اختلف الكبير مع الدبيبة وبدأ يتواصل مع الشرق، تسارعت العملية، وبحلول نهاية العام، اكتملت.
بالإضافة إلى ذلك، قام البنك المركزي بتمديد قروض طويلة الأجل دون فوائد للبنوك. وأعادت التعديلات في مجالس الإدارة للبنوك الواقعة في الشرق السيطرة الفعلية لعائلة حفتر على البنوك التي أصبح لديها الآن عشرات المليارات من الدينار في حسابات البنك المركزي في طرابلس. وهذا يعني أنَّ حكومة الشرق وصندوق بلقاسم حفتر يمكنهما مرة أخرى الاستدانة من البنوك التجارية القادرة على الدفع، بمساعدة البنك المركزي. كما أنَّ السيطرة على البنوك سمحت للمقربين من أبناء حفتر بالوصول للعملة الصعبة في البنوك، ثُمَّ بيعها في السوق السوداء، ما حقق مكاسب.
تبنى الكبير موقفًا متساهلًا تجاه العملة المزيفة، التي يبدو أنَّها طُبعت تحت إشراف حفتر في شرق ليبيا. حيث طبع البنك المركزي في بنغازي أوراقًا نقدية من فئة الدينار في روسيا منذ عام 2016 إلى 2021، وأتاح البنك المركزي في طرابلس تداولها، ولكن في أوائل عام 2024، بدأت كميات كبيرة من الأوراق النقدية من فئة 50 دينارًا تنتشر، ووصفها البنك المركزي بالمزيفة.
وتقدر قيمة الأوراق النقدية المزيفة من 400 مليون دولار إلى 1.4 مليار دولار. وقد أخطر البنك المركزي النائب العام عن الأوراق في فبراير ولكن انتظر حتى أبريل للإعلان عن سحب الأوراق من فئة 50 دينارًا من التداول، ومنح البنوك مهلة حتى نهاية أغسطس لاستخدامها. لكن الأوراق المزيفة ما زالت متداولة، ومستمرة في الانتشار في شرق ليبيا.
إيهامات الثروة: الهدف هو طرابلس
يهدد الوصول المتنامي لعائلة حفتر إلى أموال النفط لزعزعة توازن القوى. فقد أخبر صدام مقربين منه أنَّه يسعى إلى تحويل الفصائل الغربية الليبية ضد بعضها البعض وشراء دعم قادة الميليشيات المختارين، وهي مهمة أصبحت أسهل بفضل الأموال التي أصبحت تحت تصرفه الآن
رغم امتلاك عائلة حفتر لحكومة موازية، فإنَّها تزال تتلقى مئات الملايين من الدينارات من طرابلس كل شهر، وفي حين تهرب الوقود على نطاق واسع، يمتد نفوذها إلى أعلى مستويات المؤسسة الوطنية للنفط. لقد مكّنهم التحكم في كل من البنوك التجارية والبنك المركزي في بنغازي من مسح الديون القديمة وبدء الإنفاق بالاستدانة من جديد. ويتم تحويل الدينارات التي تنشأ من العدم إلى عملة صعبة. وقد انتقل مركز الثقل في حالة النهب في ليبيا بشكل حاسم إلى الشرق، بينما تحاول عائلة حفتر الآن أن تقدم نفسها بصورة أفضل كمعمرين للمدينة.
بالإضافة إلى صندوق بلقاسم، بدأت جهة أخرى مؤخرًا في تنفيذ مشاريع كبيرة في سرت ومدن أخرى: الوكالة الوطنية للتنمية. هذه هي التسمية الجديدة لهيئة أنشأها صدام حفتر، وكالة طارق بن زياد للخدمات والإنتاج، التي يشرف عليها “جبريل البدري”، والذي يُزعم أنَّه يدير عمليات تهريب الوقود من بنغازي. وقد كانت وكالة طارق بن زياد تعمل على توجيه الأرباح من السرقات إلى وحدات صدام العسكرية، لكن الآن، الوكالة الوطنية تطور العقارات القيمة التي استولى عليها صدام حفتر في بنغازي.
توافد رجال الأعمال وقادة الميليشيات من غرب ليبيا إلى الشرق وجعلوا حفتر وأبناءه موضوعًا للقاءات دبلوماسية. قبل الانتعاش الكبير في الإعمار، لم تكن هناك اجتماعات علنية بين الممثلين من الغرب وأبناء حفتر. لكن من أبريل فصاعدًا، أصبحت الاجتماعات مع بلقاسم وصدام وخالد حفتر جزءًا من الجدول الروتيني للمسؤولين الغربيين. أصبح الدبلوماسيون الآن مستعدين لتطبيع العلاقات مع “دولة المافيا” كما وصفها أحد الدبلوماسيين في طرابلس.
هل يمكن للنظامين التعايش؟ الخلاف بين الكبير والدبيبة أدى إلى توترات بين تحالفات الميليشيات المتنافسة في غرب ليبيا، كما يبدو أنَّ الترتيبات التي تربط بين الشرق والغرب تقترب من نقطة الانهيار.
منحت المؤسسة الوطنية للنفط مؤخرًا حصة من الإنتاج في عدة حقول نفطية لشركة ليبية جديدة مجهولة الملكية يُشاع أنَّها تعمل كواجهة لصدام، التي بدأت بالفعل في بيع نفطها الخاص. علاوة على ذلك، يدعي كبار المسؤولين الماليين أنَّ فجوة تقدر بمليارات الدولارات قد تراكمت خلال العامين الماضيين بين قيمة النفط الخام الذي يُستخرج من المواني الليبية والتحويلات المالية إلى حساب المؤسسة الوطنية للنفط في البنك الخارجي الليبي، وهو فرع من البنك المركزي.
يهدد الوصول المتنامي لعائلة حفتر إلى أموال النفط لزعزعة توازن القوى. فقد أخبر صدام مقربين منه أنَّه يسعى إلى تحويل الفصائل الغربية الليبية ضد بعضها البعض وشراء دعم قادة الميليشيات المختارين، وهي مهمة أصبحت أسهل بفضل الأموال التي أصبحت تحت تصرفه الآن. في حين أخبر والده الدبلوماسيين الغربيين أنَّه ينوي تنفيذ محاولة أخرى للاستيلاء على طرابلس. وتستمر عائلة حفتر في شراء الأسلحة العسكرية، مما لا يترك مجالًا للشك في نواياهم. مؤخرًا، اعترضت السلطات الإيطالية شحنة من الطائرات المسيرة الصينية في طريقها إلى بنغازي ضمن جزء من صفقة يُزعم أنَّها تتعلق ببيع النفط الخام.
في الوقت الحالي، يشكل الوجود العسكري التركي في غرب ليبيا عقبة هائلة أمام هذه الطموحات. كما أنَّ المصلحة الشخصية لقادة الميليشيات، بصرف النظر عن نجاحهم أو تدهورهم تحت حكم الدبيبة، تجعلهم يعلمون أنَّ الاستيلاء على الحكم من قبل حفتر سيقوض نفوذهم وينهي وجودهم. ولكن مع التزايد المفاجئ في الثروات والسلطة، بالإضافة إلى التقرب من المبعوثين الأجانب، قد تنشأ أوهام بالقوة المطلقة التي تحمل خطر حدوث أخطاء كارثية.
اضغط لتحميل الملف