كثيرًا ما تكون رحلة الصعود بمثابة صعود للهاوية، وبالأخص حين لا تستند إلى ركائز صلبة تقف عليها لتعتمد على ظرف استثنائي عابر.
ربما لم يشغل صعود شخص في مصر الرأي العام خلال السنة الأخيرة بمقدار ما شغله صعود إبراهيم العرجاني، الذي تحول من كونه سجينًا جنائيًّا قبل 15 عامًا، ليصبح أحد أكبر رجال الأعمال في البلاد، والمتحكم في حركة المرور بمعبر رفح، حتى أنَّ موقع مدى مصر روى قصة صعوده في تقرير استثنائي بعنوان “شبه جزيرة العرجاني” وضع فيه العرجاني بديلًا لسيناء. وهنا لن أحكي في المحكي لأعيد تكرار ما سبق تداوله، إنما سأحاول تلمس أسباب دفقة صعوده الأخيرة.
هل أصبح الرجل الثاني في مصر؟
قبيل تنفيذ جيش الاحتلال لهجومه على رفح واحتلاله للمعبر في شهر مايو 2024، أُعلن عن تأسيس “اتحاد القبائل العربية” برئاسة العرجاني، وتنظيمه لمؤتمر حاشد لتأسيس الاتحاد في قرية العجرة جنوب رفح، التي تحول اسمها “مدينة السيسي” في إشارة رمزية لانتصار النظام المصري على تنظيم ولاية سيناء بعد أن كانت العجرة أحد معاقله الرئيسية، وهي قرية تبعد 7 كيلو مترات عن الحدود مع فلسطين.
قبيل انعقاد المؤتمر المشار له، زار رئيس الوزراء مصطفى مدبولي رفقة وفد ضم عددًا من الوزراء والفنانين وقائد الجيش الثاني “مدينة السيسي”، حيث جلس العرجاني على المنصة بجوار مدبولي، كما بدأ يتحرك العرجاني في مواكب تماثل موكب السيسي من حيث ضخامة عدد المرافقين والسيارات، وبما يوحي أنَّ العرجاني أصبح الرجل الثاني في الدولة بعد السيسي نفسه، ولكن هذا الإيحاء فيه نظر.
إنَّ تشكيلة اتحاد القبائل العربية توضح أنَّ العرجاني مجرد واجهة للأجهزة الأمنية، وأنَّه لا يمثل مركز قوة بشخصه، فبخلاف أنَّ نائبه في رئاسة مجموعة “العرجاني جروب” هو اللواء لؤي زمزم مدير المخابرات الحربية السابق في شمال سيناء، فإنَّ نائبيه في رئاسة الاتحاد، هما اللواء أحمد صقر جهينة محافظ الغربية السابق وضابط أمن الدولة المخضرم، بينما نائبه الثاني هو أحمد رسلان رئيس لجنة الشؤون العربية بمجلس النواب سابقًا، أما الإعلامي مصطفى بكري فهو المتحدث الرسمي باسم الاتحاد. وبذلك يكون العرجاني ممثلًا لقبائل سيناء، ورسلان ممثلًا لقبائل مطروح، وصقر وبكري ممثلين لقبائل الصعيد، وهو ما يكفل أن يكون العرجاني فردًا وسط محيط أوسع مرتبط بالدولة.
ويبدو أنَّ من أهداف اتحاد القبائل توفير ظهير شعبي للسيسي، في ظل فشل أحزاب الموالاة مثل حزب مستقبل وطن في حشد المواطنين للمشاركة في التجمعات التي يرغب النظام في تجييش المصريين للمشاركة بها، وهو ما اتضح في ضعف المشاركة الشعبية في الاحتجاجات التي دعا لها النظام في أكتوبر 2023 عقب بدء الحرب في غزة، فضلًا عن تراجع عدد الموظفين الحكوميين في ظل سياسات الرقمنة والحد من التعيينات الجديدة، مما جعل طبقة الموظفين أصغر حجمًا وأقل قدرة على إظهار الدعم الجماهيري.
الاستفادة من درس يناير 2011
لقد أمعن نظام السيسي في دراسة تجربة ثورة يناير وما تلاها من أحداث حتى انقلاب 2013، وخرج بدروس مستفادة، وعمل على تلافي الثغرات الأمنية التي أضعفت قدرة نظام مبارك على الصمود. فبدأ السيسي فور تقلده مقاليد السلطة في بناء عاصمة إدارية جديدة في الصحراء نقل لها الوزارات ومقرات الحكم، ووفر لها حماية مشددة؛ لمنع تكرار أحداث حصار وزارة الداخلية وقصر القبة الرئاسي أثناء ثورة يناير، كما دشن شبكة طرق وكباري تكفل له سرعة التنقل والسيطرة على أي احتجاجات، وهو عبر عنه نصًّا في وقت مبكر عام 2014 قائلًا “هعمل شبكة طرق في خلال سنة تمسك مصر كده” مشيرًا لقبضة يده.
وفي سيناء، فقد الجيش السيطرة على العديد من قرى رفح والشيخ زويد بعد ثورة يناير، وخاض قتالًا طاحنًا حتى استتب له الوضع بحلول عام 2021، ولذا أصبح صنع رديف محلي يمنع حدوث فراغ في حال حدوث ثورة أو اضطرابات مستقبلًا أمرًا مطلوبًا، وبالتالي لم يفكك النظام اتحاد قبائل سيناء الذي تأسس في عام 2015 بقيادة العرجاني لدعم الجيش في مواجهة تنظيم ولاية سيناء، لكنه طوره إلى اتحاد القبائل العربية.
ويندرج تدشين اتحاد القبائل العربية فيما يبدو ضمن مخطط لتأسيس مليشيات قبلية مسلحة في المناطق الحدودية لدعم الجيش في ظل امتداد نطاق الاضطرابات بدول الجوار إلى غزة وليبيا والسودان، وصعوبة سيطرة الجيش وحده على الحدود الشاسعة، فقد شرعت قبيلة العبابدة مؤخرًا على سبيل المثال في تدشين مجموعات مسلحة بالصحراء الشرقية تمتلك سيارات دفع رباعي مزودة بالأسلحة الرشاشة في استنساخ لتجربة اتحاد قبائل سيناء.
ويعضد ما سبق، أنَّ العرجاني أدلى بتصريح خلال مؤتمر تأسيس الاتحاد أعلن فيه أنَّ الاتحاد يضم خمسة تجمعات قبلية موجودة مسبقًا في الصعيد والسلوم ومطروح والبحر الأحمر، ويوحدها في كيان واحد، داعيًا للاصطفاف خلف السيسي، فيما أعلن بكري أنَّ الاتحاد سيكون له دور محوري ثقافي واجتماعي وتوعوي ودفاعي عن ثوابت الدولة. وكذلك عقد الاتحاد ندوة جماهيرية في المنصورية بالجيزة، أعلن خلالها بكري الشروع في تأسيس مقرات للاتحاد في كافة المحافظات والمدن لتكوين سند شعبي للسيسي، مع ترخيص الاتحاد كجمعية تابعة لوزارة التضامن الاجتماعي.
سياسات جديدة
إنَّ المجال الأمني كان حكرًا على الأجهزة السيادية في مصر، لكن مؤخرًا بدأت توكل العديد من مهامه للعرجاني، وكذلك لنخنوخ، مما يؤهلهما للعمل كخط دفاع متقدم ضد أي احتجاجات شعبية، فبجوار تولي نخنوخ لإدارة شركة فالكون للحراسات، أسس العرجاني في عام 2022 “شركة إيتوس للخدمات الأمنية”، والتي تعاقدت مع اتحاد الكرة المصري لتأمين الفعاليات الرياضية. كما استحوذ على شركة إيجلز سيكيوريتي التي أسسها الفرنسي جيل بورغينيون، وهي شركة خاصة تتولى مهام حساسة مثل: توفير الحماية للشركات متعددة الجنسيات التي تتخذ مصر مقرًا لها، والعديد من السفارات، لا سيما سفارات إيطاليا وألمانيا والنمسا.
أعيد التأكيد على أنَّ صعود العرجاني وتأسيس اتحاد القبائل العربية يخالف سياسات أنظمة الحكم المتعاقبة في مصر منذ عام 1952، التي لا تعتمد على كيانات عشائرية وقبلية، كما أنَّه يقلق الأقلية المسيحية. وفي المجمل قد يكون مشروع الاتحاد مجرد كيان عابر في ظل اضطراب الأوضاع في الدول المجاورة، ولتكوين ظهير شعبي داعم للسيسي، ثُمَّ يُحل أو يتلاشى دوره مع هدوء الأوضاع، ولكن تظل هناك مخاطر كبيرة في المراهنة عليه من أبرزها إمكانية استثمار أطراف إقليمية فيه بمرور الوقت، عبر شراكات اقتصادية، فالاقتصاد مدخل لبناء العلاقات وشراء الولاءات.
إنَّ مشروع العرجاني لا يحمل وفق المعطيات الآنية آفاقًا للرسوخ، ويرجح أن يرتبط بقاؤه ببقاء السيسي نفسه، ويرجح أن يصطدم بمصالح العديد من النافذين والأجهزة السيادية، ولكن في حال حدوث اضطرابات وتهاوي أجهزة الدولة أو حدوث تغيير سياسي، فيمكن أن تغريه أطراف خارجية بمشاريع تدعو لفصل سيناء أو مناكفة السلطة الجديدة لمنعها من الاستقرار، وليُضاف طوق جديد إلى رقبة مصر بجوار أطواق سد النهضة والديون الخارجية.