تخطي الروابط

حكومة “كامل إدريس” في السودان بين اختبار الشرعية ومعضلة التوازن العسكري–المدني

الحدث
في 19 مايو/أيار 2025، أعلن رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء، في أول خطوة سياسية بارزة منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023. جاءت هذه الخطوة كمحاولة لملء الفراغ المدني في السلطة، وتهدئة الضغوط الدولية المطالِبة بتسليم الحكم إلى حكومة ذات طابع مدني، لا سيما في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية، وانقسام مؤسسات الدولة بين سلطتين متنازعتين.

التحليل
اختير إدريس، ذو الخلفية الدبلوماسية الطويلة في الأمم المتحدة، بوصفه شخصية توافقية نسبيًا. إلا أن التركيبة الوزارية التي رافقت تعيينه كشفت عن توازن هشّ بين واجهة مدنية مطروحة للعالم، وسيطرة عسكرية وأمنية فعلية داخل الحكومة.

فقد أُسندت وزارة الداخلية إلى اللواء بابكر سمرة مصطفى، وهو ضابط رفيع من شرق السودان، بينما تولّى وزارة الدفاع اللواء حسن داوود كيان، أحد أبرز قادة الجيش في جنوب كردفان. أما وزارة المالية، فقد احتفظ بها جبريل إبراهيم، زعيم حركة العدل والمساواة المسلحة، الذي يشغل المنصب منذ فبراير/شباط 2021 بموجب اتفاق جوبا، رغم الانتقادات المتواصلة لأدائه الاقتصادي. وفي وزارة الحكم الاتحادي والتنمية الريفية، جرى تعيين محمد كرتكيلا، القيادي في الحركة الشعبية–شمال، الجناح الموالي لنائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار، ما يعكس عمق حضور المحاصصة بين الحركات المسلحة والسلطة القائمة.

هذه التركيبة تُضعف فرضية الحكومة التكنوقراطية، وتحوّلها إلى كيان محاصر بتوازنات عسكرية وأمنية، يخضع لتدخلات مباشرة من مجلس السيادة، خصوصًا في المناصب السيادية، مما يقيّد قدرة رئيس الوزراء على تشكيل فريق مستقل أو اتخاذ قرارات جوهرية.

على الصعيد الأمني، لا تزال التحديات جسيمة، مع بقاء الدعم السريع مسيطرًا على أجزاء واسعة من دارفور، واندلاع أزمات حدودية، أبرزها ملف المثلث الحدودي مع مصر وليبيا، الذي أدى إلى انسحاب الجيش السوداني لصالح الدعم السريع، وسط اتهامات سودانية لليبيا بتسهيل هذا التمدد برعاية إماراتية. وقد دفعت خطورة الموقف القاهرة إلى استضافة لقاء جمع البرهان بقائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، في محاولة لاحتواء التصعيد.

اقتصاديًا، تواجه الحكومة انهيارًا شبه كامل في البنية التحتية، وتراجعًا حادًا في قيمة الجنيه، وتعليقًا واسعًا لبرامج الدعم الدولي، في ظل غياب رؤية إصلاحية واضحة. وقد فاقمت العقوبات الأمريكية الأخيرة على السودان، إثر اتهامات باستخدام الجيش لأسلحة كيميائية، من عزلة الحكومة الجديدة، رغم نفي الخرطوم ومطالبتها بتقديم أدلة ملموسة.

ميدانيًا، أعلن الدعم السريع تشكيل حكومة موازية، يتولى رئاستها حميدتي، ويشغل فيها عبد العزيز الحلو، زعيم الحركة الشعبية–شمال، منصب نائب الرئيس، مما يعمّق أزمة الشرعية ويزيد تعقيد المسار السياسي في البلاد.

تكشف تشكيلة حكومة كامل إدريس عن محاولة مزدوجة: من جهة، تهدئة الخارج بتقديم شخصية مدنية محنّكة على رأس الحكومة؛ ومن جهة أخرى، تثبيت الداخل عبر مراعاة توازنات اتفاق جوبا، وترضية الحركات المسلحة بشراكة وزارية واسعة. لكن هذه الترضيات، وإن جنّبت الحكومة نزاعات جانبية، فإنها قيّدت استقلالها منذ اللحظة الأولى، وجعلتها تدور في فلك مجلس السيادة وقادته العسكريين.

الأسماء المختارة في الوزارات السيادية ليست فقط من خلفيات أمنية أو عسكرية، بل جاءت بترشيح مباشر من البرهان، ما يعني أن السلطة الحقيقية لا تزال في يد القيادة العسكرية، وأن رئيس الوزراء لا يملك الأدوات السياسية أو المؤسسية لفرض رؤيته أو رسم برنامج حكومي مستقل.

هذا الواقع يجعل من حكومة إدريس كيانًا “مقيدًا بشرعيته” داخليًا، و”معلّقًا باعترافه” خارجيًا، في ظل شكوك إقليمية ودولية بشأن مدى استقلالها، وصراع سياسي مستمر مع حكومة الدعم السريع الموازية، ودعم إماراتي علني لحميدتي. كما أن التدهور الاقتصادي، والانقسام المجتمعي، وتعدد جبهات الاشتباك، جميعها عوامل تُفرغ أي محاولة للإصلاح السياسي من مضمونها.