أزمة الحدود بين السودان وإثيوبيا وانعكاساتها على سد النهضة
تتسبب أزمة الحدود السودانية الإثيوبية في توتر العلاقات بين البلدين من حين لآخر، وقد تفاقمت المشكلة مؤخرًا مع محاولة السودان استعادة السيطرة على معظم منطقة الفشقة وطرد الإثيوبيين منها وهو ما أعطى فرصةً لمصر حاولت استثمارها بشكل جاد في ظل أزمة سد النهضة، انعكست على تقارب مصري سوداني بمستوى تنسيقي عالٍ.
ومنذ الانقلاب على البشير في أبريل 2019، لعبت إثيوبيا دورًا فاعلًا ورئيسيًّا في ترتيب الفترة الانتقالية في السودان ورعاية اتفاق السلام بين الحكومة والحركات المسلحة، إلا أن تصعيد الأزمة الحدودية جاء عقب إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي شن حملة عسكرية على إقليم التيجراي في نوفمبر 2020، فأعلن السودان نشر قواته على الحدود مع إثيوبيا وتصاعدت الاشتباكات مع عصابات الشفتة التابعة لقومية الأمهرا المتحالفة مع الحكومة الإثيوبية الحالية، ويأتي هذا التصعيد في ظل حالة من الهشاشة وانعدام الاستقرار في المنطقة نظرًا للعديد من الأسباب على رأسها أزمة سد النهضة وانخراط إريتريا في الصراع الإثيوبي وكذلك اضطراب الأوضاع في السودان، في وقت يتدفق فيه آلاف اللاجئين الإثيوبيين إلى السودان نتيجة الصراع الداخلي القائم.
وتزامن التحرك السوداني مع ذكرى اندلاع ثورة ديسمبر 2018، ومع تنامي الخلافات بين شركاء الحكم جاءت خطوة السيطرة على المنطقة المتنازع عليها لتعزيز دور الجيش ومحوريته في المشهد وتحقيق انتصار في وقت تشهد فيه الجبهة الداخلية الإثيوبية تفككًا ونزاعًا داخليًّا.
ومؤخرًا قبلت السودان بالإمارات وسيطًا في التفاوض بين البلدين لحل الأزمة بعد تعثر المفاوضات عدة مرات إذ تتمسك السودان بوضع العلامات الحدودية على الأرض وفقًا لاتفاقية 1902 قبل الجلوس على طاولة التفاوض، في حين تشترط إثيوبيا انسحاب الجيش السوداني من كل المناطق التي سيطر عليها قبل بدء التفاوض.
خلفية الأزمة
للسودان حدودٌ مع ثماني دول اشتركت في ترسيمها دول استعمارية كبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا، واقعيًّا ساهمت اتفاقية الترسيم الحدودي بين السودان وإثيوبيا والموقعة عام ١٩٠٢ في الفصل بين من يقيمون في الجبال الإثيوبية وسكان السهول السودانية.
وترجع أزمة الحدود السودانية الإثيوبية إلى بداية الخمسينيات من القرن الماضي حيث بدأ المزارعون الإثيوبيون “عصابات الشفتة” يتسللون داخل الأراضي السودانية للزراعة عام 1957 في المنطقة المعروفة بالفشقة شمال ولاية القضارف، وحاولت الإدارة الأهلية منع ذلك، ولكنها فشلت نظرًا للاضطراب في الأوضاع السياسية السودانية ففي نفس الفترة كانت قد بدأت مشكلة الجنوب عام 1955، ثم بعد ثورة 1964 اهتمت الحكومة الجديدة بتلك القضية فتولدت أزمة الحدود في الفترة بين 1966 – 1971، وتم تشكيل لجنة لدراسة الحدود الإثيوبية السودانية ولم يتم حسم الأمر نظرًا للاضطرابات السياسية في كلا البلدين .
وتكمن وجهة النظر السودانية في أن التخطيط الذي قام به الميجور جوين نيابة عن الحكومتين البريطانية والإثيوبية عامي 1902 – 1903 هو ما تم بالفعل، وفي هذا التخطيط فإن المنطقة المتنازع عليها تقع ضمن حدود السودان. إلا أن الجانب الإثيوبي يرى أن أي حل للأزمة لابد أن يَأخذ بعين الاعتبار وجود المزارعين الإثيوبيين في المنطقة لعقود، ويستند سلوك الجانب الإثيوبي إلى وجهتي نظرٍ، الأولى هي أن إثيوبيا ترفض بروتوكول 1903 على أساس أن الحكومة الإثيوبية لم تفوض “جوين” لينوب عنها فضلًا عن أن المادة الثانية من البروتوكول نصت على تكوين لجنة مشتركة لتخطيط الحدود “المتفق عليها”، والثانية هي أن إثيوبيا تقر وتعترف بأن الإمبراطور منليك كان قد قبل أن يكون الميجور جوين ممثلًا عنه في اللجنة المشتركة إلا أنه لم يصدق على التخطيط الذي قام به، وهذا ما يستند عليه كلا الطرفين في الخلاف.
وتتميز منطقة الفشقة بخصوبتها ووفرة المياه فيها، وتعتقد العرقية الأمهرية الإثيوبية بأن أراضي الفشقة جزءًا من إقليمها تاريخيًّا، ولا يحق لأي أحد التنازل عنها للسودان إذ يعتمد الإقليم عليها في الزراعة بشكل كبير.
التطورات الأخيرة
حدثت اشتباكات بين العصابات الإثيوبية والجيش السوداني في يونيو 2020، راح ضحيتها قتلى من الطرفين ومع تنامي الاشتباكات وتصاعدها نجح الجيش السوداني في السيطرة على معظم منطقة الفشقة وطرد الإثيوبيين منها، ووجهت إثيوبيا اتهاماتٍ لطرفٍ ثالث بالتخطيط والدعم لتنفيذ المواجهات الأخيرة على الحدود بين البلدين في إشارة لمصرَ بأنها هي التي دفعت بالسودان للتصعيد للضغط على إثيوبيا في أزمة سد النهضة، وكان الرد السوداني بأن سيطرة الجيش على المناطق الحدودية كان مدفوعًا بالإرادة المحلية وليس التحريض الأجنبي. ونفى وجود أي طرف يحرض السودان على إثيوبيا.
وفي نوفمبر 2020 شن الجيش السوداني هجومًا سيطر فيه على بعض المناطق في تصعيد نوعي تبعه هجوم آخر في 31 ديسمبر سيطر فيه على أغلب منطقة الفشقة ليقوم الطيران الحربي الإثيوبي في 11يناير بتنفيذ أولى طلعاته الجوية على المناطق الحدودية، واتهمت إثيوبيا السودان باحتلال أراضٍ بعمق 20 إلى 40 كيلومترًا داخل “العمق الإثيوبي” منذ منتصف ديسمبر الماضي إذ أعلن السودان في 1 يناير، السيطرة الكاملة على منطقة الفشقة، في الوقت الذي طالب فيه السودان بترسيم الحدود مع أثيوبيا.
ومع تنامي التوتر أكد المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية حرص بلاده على حل قضية الحدود مع السودان بالطرق السلمية والدبلوماسية وجدد مطالبة القوات السودانية بالعودة إلى منطقة ما قبل التوتر من أجل الجلوس على طاولة الحوار. وأعلنت إثيوبيا استعدادها لقبول الوساطة من أي دولة لحل الأزمة الحدودية مع السودان، حال نفذت الخرطوم شرطا واحدا، هو إخلاء الجيش السوداني للمنطقة التي احتلها بالقوة، من جانبه صرح عضو مجلس السيادة ، الفريق أول شمس الدين الكباشي، بأن إثيوبيا تمارس ما يشبه الاستيطان الإسرائيلي، وشدد على أن القوات السودانية لن تتراجع عن شبر من الأراضي التي استعادتها بمنطقة الفشقة من الجانب الإثيوبي. ومع الحديث عن الوساطة، دعت إثيوبيا تركيا للتوسط بينها وبين السودان، من أجل حل النزاع الحدودي القائم”، فيما كلف الاتحاد الإفريقي الدبلوماسي الموريتاني محمد الحسن ولد لبات، بقيادة وساطة بين السودان وإثيوبيا، وأعلن السودان تمسكه بالحل السلمي، من خلال تأكيد البرهان في 20 يناير أن بلاده لا تريد خوض حرب مع إثيوبيا ولا مع أي دولة من دول الجوار الإقليمي وشدد على أن الخرطوم لن تفرط في شبر من أراضيها.
التدخل المصري
تعتبر أزمة سد النهضة هي الدافع الأول والرئيسي في التقارب المصري السوداني بشكله الحالي، نظرًا لما تمر به السودان من أزمة اقتصادية تتزايد بمرور الوقت ووعدت القاهرة بالدعم وهو ما تبلور في العديد من الاتفاقيات، ومثلت أزمة الحدود الإثيوبية السودانية فرصةً لتغيير معادلة سد النهضة والضغط على إثيوبيا للدخول في مسار تفاوضي جدي لحل الأزمة.
إذ أنه مع تصاعد حدة الأزمة بين البلدين أعلنت مصر دعمها الكامل للسودان، وفي 14 نوفمبر أجرى الجيش المصري مناورات عسكرية مشتركة مع السودان في أول تدريبات من نوعها بين القوات الجوية والخاصة المصرية والسودانية، وزار السودان كبار قادة الجيش المصري وقادة الأفرع الرئيسية. وفي 20 نوفمبر وقعت الهيئة القومية للإنتاج الحربي في مصر مذكرة تفاهم مع هيئة الصناعة الحربية السودانية لتعزيز التعاون في جميع مجالات الإنتاج الحربي. وفي ضوء ذلك أعلن السودان في 18 نوفمبر انسحابَه من مفاوضات سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان في رسالة واضحة للجانب الإثيوبي وإدراك من الجانب المصري لمدى أهمية السودان في مسار المفاوضات.
وعبر السيسي في اتصال هاتفي مع البرهان في 2 يناير، عن دعم بلاده الكامل للسودان في مختلف المجالات في ضوء العلاقات الوطيدة بين الأمن القومي لكل من مصر والسودان. وأعقب ذلك تصعيد سوداني عبر التعبئة العسكرية وزيارات البرهان وكبار قادة الجيش إلى المنطقة الحدودية مع إثيوبيا للتأكيد على قدرة القوات المسلحة على حماية الأرض، ثم توجه وفدٌ سوداني رفيع المستوى إلى مصر في 14 يناير ليلتقي بالسيسي، وناقشا التطورات الحدودية بين السودان وإثيوبيا. وبعد الاجتماع، أعلن السودان حظر الطيران المدني والتحليق الجوي في أجواء ولاية القضارف على الحدود مع إثيوبيا.
ولا يهدف هذا التصعيد العسكري إلى تدشين مواجهة عسكرية شاملة نظرًا لطبيعة البيئة الداخلية في كلا الدولتين فضلًا عن وجود بيئة إقليمية مضطربة ولكن يكمن الهدف الأساسي في إجبار إثيوبيا على خوض مفاوضات جادة تؤدي إل حلحلة مرضية للأطراف الثلاثة بعيدًا عن التعنت السياسي.
وقد مثلت زيارة السيسي للسودان في 6 مارس ذروة التعاون والتنسيق بين البلدين سبقتها زيارة رئيس أركان الجيش المصري محمد فريد إلى الخرطوم وقع خلالها اتفاقية تعاون عسكري بين البلدين، وشمل الاتفاق تعزيز التعاون العسكري والأمني بين مصر والسودان خاصة في مجالات التدريبات المشتركة والتأهيل وأمن الحدود ونقل وتبادل الخبرات العسكرية والأمنية.
فيما ركزت زيارة السيسي علي ملف سد النهضة، وقضايا الأمن في البحر الأحمر والتطورات على الحدود السودانية فضلًا عن العلاقات العسكرية والأمنية والاقتصادية بين البلدين، و أكد السيسي والبرهان على “رفض سياسة فرض الأمر الواقع والإجراءات الأحادية” في ما يتعلق بسد النهضة، وكانت الخرطوم قد تقدمت في منتصف الشهر الماضي، بمقترح دعمته مصر “حول تطوير آلية التفاوض التي يرعاها الاتحاد الإفريقي” وينص المقترح على تشكيل لجنة رباعية دولية، للتوسط في المفاوضات، على أن تقودها الكونغو الديمقراطية بصفتها الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي. وتشمل اللجنة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للتوسط في المفاوضات. وكانت قناة العربية نقلت في 7 مارس اتفاقًا بين البلدين على تحديد 15 أبريل المقبل موعدًا نهائيًّا للوصول إلى اتفاق ملزم مع إثيوبيا بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة.
خاتمة
الأزمة الحدودية بين السودان وإثيوبيا ذات بعد تاريخي وهي إحدى العوامل التي تحكم العلاقة بين الطرفين والتصعيد الأخير فيها نابع من حاجة المكون العسكري في النظام السوداني لتحقيق انتصار يعزز من دوره، وأن الأزمة الداخلية الإثيوبية فرصةً لن تتكرر لبسط السيطرة على المنطقة وفرض الأمر الواقع، إلا أن الأزمة لم تكن تتطور بهذا الشكل لولا الدعم والتدخل المصري إذ مثلت أزمة الحدود فرصة لتغيير معادلة سد النهضة واستمالة السودان للجانب المصري وهو ما نجح فيه نظام السيسي بشكل نسبي حتى الآن.
أقرأ أيضاً: المشهد السوداني المكونات والفواعل
اضغط لتحميل الملف