إذا سألتك عزيزي القارئ عن التاريخ الذي عرفت فيه للمرة الأولى مصطلحًا مثل “التنمر” فيمكن الجزم بأن الكثير منّا سيعود بذاكرته إلى محتوى المنصات الاجتماعية إما بالاطلاع عليه للمرة الأولى أو بتكثيف وتكرار استخدامه مما أعطاه مساحة لم تكن له من قبل في لغتنا الدارجة اليومية.
كان هذا مثالًا بسيطًا وقد يكون مختزلًا للتأثير الكبير الذي تلعبه منصات التواصل الاجتماعي مجتمعيًّا ليس فقط على مستوى اللغة وإنما بشكل أساسي على مستوى الأفكار والتصورات وحتى نمط الحياة اليومي.
في كتابه “الثورة الرابعة : كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني” يرى لوتشيانو فلوريدي ، أستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد ، أننا نعيش انصهارًا كاملًا للحدود الفاصلة بين الحياة المتصلة بشبكة الإنترنت وهذه غير المتصلة بها ، وأن هذه الحياة دائمة الاتصال “onlife” تحدد وتتحكم أحيانًا في طريقتنا في التفاعل مع عوالم السياسة والاقتصاد والاجتماع وحتى نمط التعليم والترفيه ، فهي أصبحت بصورة أو بأخرى البيئة المُضيفة التي تُشكّل وتحوّل واقعنا في مختلف مناحي الحياة. أحد أهم مظاهر هذه البيئة الاتصالية وأكثرها تطورًا وفاعلية في الحياة اليومية للأفراد هي منصات التواصل الاجتماعي التي كان ومازال لها دورٌ حيويٌّ في الحياة اليومية لمستخدميها ، فعلى مدار أكثر من عِقد مضى تم التأسيس للشبكات الاجتماعية ، لاسيما شبكتي فيس بوك وتويتر، باعتبارها منصات تعبير عن الرأي كوظيفة أولى وأداة تغيير كوظيفة ثانية وفي الحالين تم الترويج للشبكات الاجتماعية كمصدر معلوماتي مفتوح وبديل حرٍّ عن الإعلام التقليدي من صحافة وتلفزيون بأنماط ملكيتها المختلفة وسياساتها التحريرية المتباينة وتم إعلاء راية المواطن/ المستخدم باعتباره صاحب الامتياز الأول على هذه المنصات لا ينافسه في ذلك سوى مواطن زميل يمتلك هو الآخر حسابه الخاص على تلك المنصات.
دعم هذا التوجه وأيّده الدور الحقيقي والفاعل الذي لعبته المنصات الاجتماعية في تحريك كرة الثلج والمساهمة في إحداث نقلة نوعية في الحِراك السياسي والاجتماعي عالميًّا. لكن ما لبث أن بدأ هذا التوجه في التراجع رويدًا رويدا بعد مجموعة من الأحداث والمواقف أوجبت الكثير من المراجعات حول المثالية المتخيّلة للأدوار التعبيرية و التغيرية التي تلعبها الشبكات الاجتماعية، وهنا لا نتحدث من موقع “المؤامرة” التي تفترض أن “جميع المستخدمين” لتلك الشبكات عرائس ماريونت تحركهم الأجندات الخارجية دون وعي منهم أو إرادة مباشرة ، وإنما نتحدث عن “طبيعة نظام عمل” تلك الشبكات ونمط إدارتها وقدرتها هي ذاتها على تحقيق عدالة وحرية الحوار بين مستخدميها . مع الأخذ في الاعتبار البُعد الاقتصادي والربحي الذي يجعل إدارات تلك الشبكات محلّ اتهام وريبة في كثير من التقارير الصحفية والدراسات البحثية.
يأتي على قائمة الأحداث التي وجهت الأنظار إلى المنصات الاجتماعية بعين نقدية ؛ التصاعد المطرد للأحزاب اليمينية الشعبوية والذي رأى فيه العديد من السياسيين والأكاديميين “ناقوس خطر” يهدد الديمقراطية الغربية مما استدعى جهودًا سياسية وأكاديمية للوقوف على أسباب هذا التصاعد وآلياته والتي كان من بينها بطبيعة الحال سؤالًا حول دور المنصات الاجتماعية في تعزيز “الخطاب الشعبوي” ، حيث اُتهمت هذه المنصات بأنها بيئة خصبة لتشكّل الجماعات الشعبوية لأنها تعكس وتضخم الحالة المزاجية العامة غير العقلانية وتعتمد في مداولاتها النقاشية على “الإقناع العاطفي” أكثر من “الإقناع العقلاني”. هذا الحديث بدوره فتح الباب أمام نقاش آخر حول دور المنصات نفسها وِفقًا لهذه المعطيات في دعم ما يسمى بـ”الغضب الأخلاقي/ Moral outrage” أو الغضب العارم الذي يتمترس خلف غطاء قيمي أو أخلاقي لكنه في حقيقة الأمر يؤدي دورًا عقابيًّا عاطفيًّا قد يهدد في بعض الأحيان الحياة المهنية أو الاجتماعية لبعض الأشخاص دون الاستناد إلى أي دلائل أو قرائن عقلانية أو موضوعية وإنما اعتمادًا فقط على الحس العاطفي والاندفاع الجماعي نحو تنقية الثوب الاجتماعي من خطاياه وإن كان بحرقه في بعض الأحيان!
المفارقة المهمة هنا ، والتي ينبغي الإشارة إليها والوقوف عندها أيضًا، أن الركيزة الأساسية التي اعتمدت عليها أغلب الكتابات النقدية للشبكات الاجتماعية هي نفسها الميزة المحورية التي اعتمدت عليها تلك الشبكات وهي قدرة أي فرد على التعبير عن رأيه من خلال منصة إعلامية مفتوحة لا تخضع لأي مراجعات أو تعديلات ، نعم هناك مراقبة للمحتوى وِفق معايير كل منصة ، وهناك إدارة الخوارزميات التي لم تسلم من الاتهام أيضًا بل تكاد تكون متورطًا رئيسيًّا في كثير من تلك الانتقادات لا سيما الانتقادات المتعلقة بهدر الحق العام في الخصوصية وعدم حماية المستخدمين من “الأخبار الكاذبة” ، إلَّا أنها تعود وتؤكد أن الإشكال الأساسي يكمن في أن كل فرد أصبح بإمكانه أن يدلي برأيه الذي هو في نهاية المطاف “رأي شخصي” يحاول به البعض تعزيز هويته من خلال تمييزها عن الآخرين إما برفض أو قبول ما هو موجود بالفعل في منصات التواصل الاجتماعي . ومن ثمّ فهي بهذا المعنى غير قادرة على تشكيل مداولات عقلانية أو إنشاء مجال عام صحي يمكن الوصول فيه إلى الحقائق وتتبعها بسهولة ويسر.
إجمالًا، وبعيدًا عن مدى دقة هذه الانتقادات وكيفية معالجتها وهو ما سنتكلم عنه بالتفصيل لاحقًا إلَّا أنه من الثابت والجليّ هنا أن هذه البحوث والاستقصاءات هي إقرار واضح بالدور الكبير الذي تلعبه المنصات الاجتماعية في الحياة العامة للأفراد والذي يؤثر بدوره على المجريات السياسية والاجتماعية الأمر الذي يستدعي مزيدًا من الجهود النقدية والتحليلية التي ترصد حركة الأفراد على الشبكات الاجتماعية وعلاقتها بالدوافع والمتغيرات السياسية والاجتماعية وحتى النفسية فضلًا عن تشريح ديناميكية العمل بين ما هو شخصي وذاتي وما هو عام وموضوعي نتيجة للتداخل والتشابك في الأدوار المتعددة التي يلعبها الأفراد على مسرح تلك الشبكات من حيث كونهم متلقين للمحتوى ومنتجين له في آن واحد وما يترتب على ذلك من تكثيف وتعقيد للمشهد العام للشبكات الاجتماعية مما يعزز الحاجة إلى تفكيكه وتنظيمه دوريًّا من أجل فهم أفضل لواقعنا ولنا نحن المستخدمين والمرابطين على حساباتنا الافتراضية.
**الآراء الواردة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر منتدى العاصمة**